من نحن ؟ | معرض الصور | الاقتراحات | التواصل معنا
Loading ... please Wait
مشاهدة Image
- العقيدة-أضواء على قضيةِ التّحاكُم
المكتبة > العقيدة > أضواء على قضيةِ التّحاكُم
عدد المشاهدات : 10
تاريخ الاضافة : 2019/01/09
المؤلف : أبي عبد الرحمن الصومالي


أضواء على قضيةِ التّحاكُم
        1) طغيان الشّيطان      
        2) طغيان الكاهن       
        3) طغيان السّاحر       
        4)طغيان السّادن        
        الدّرجة الأولى    
        الدرجة الثّالثة    

الكتاب
Adwa.pdf

الدروس
(الخطأ الأول) في تعريف التحاكم والمتحاكم

(الخطأ الأول) في تعريف التَّحاكم والمُتحاكم
إنَّ نقصَ معرفة بعض النَّاس بتعريف التَّحاكم والمُتحاكِم جعلتهم يُوسِّعُون الدائرة ويظنُّون بعض الحالات أنَّها من صُور التَّحاكم، فكفَّرُوا لأجل ذلك من لا يستحقّ التكفير.
والتحاكم: هو إسنادُ القضاء إلى حاكم، والرضى بفصلِ النزاع القائم بين اثنين أو أكثر بحُكمه.
والتحاكم إلى الطاغُوت: هو إسنادُ القضاء إلى الطاغُوت، والرضى بفصلِ النزاع بحُكمه.
والمُتحاكمُ إلى الطاغُوت: هو من تحاكم أي: أظهر رضاهُ بفصل النزاع بحُكم الطاغُوت سواء كان مُدعياً أو مُدعياً عليه.
هذا هُو التعريف المُوافق للُّغة و لسبب نزول الآية الّذي ذكرهُ المُفسِّرون.
قال الطبري في تفسيره: "وقد ذكر أن هذه الآية نزلت في رجل من المنافقين دعا رجلاً من اليهود في خصومة كانت بينهما إلى بعض الكهان ليحكم بينهم ورسول اللـه صلى اللـه عليه وسلّم بين أظهرهم".
ثُمَّ ذكر عن عامر الشَّعبي أنَّهُ قال في هذه الآية: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُوا بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوۤا إلَى ٱلطَّـٰغُوتِ﴾ قال: "كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة، فكان المنافق يدعو إلى اليهود لأنه يعلم أنهم يقبلون الرشوة، وكان اليهودي يدعو إلى المسلمين لأنه يعلم أنهم لا يقبلون الرشوة، فاصطلحا أن يتحاكما إلى كاهن من جُهينة، فأنزل اللـه فيه هذه الآية: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُوا بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ - حتى بلغ- وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.(اهـ)
وقال ابن كثير في تفسيره: "هذا إنكار من الله عز وجل على من يدَّعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله وعلى الأنبياء الأقدمين ، وهو مع ذلك يريد أن يتحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله وسنة رسوله، كما ذكر في سبب نزول هذه الآية أنها في رجل من الأنصار ورجل من اليهود تخاصما، فجعل اليهودي يقول: بيني وبينك محمد، وذاك يقول: بيني وبينك كعب بن الأشرف . (اهـ)
وقال: "وقيل: في جماعة من المنافقين ممن أظهروا الإسلام، أرادوا أن يتحاكموا إلى حكام الجاهلية، وقيل غير ذلك، والآية أعم من ذلك كله، فإنها ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة. وتحاكموا إلى ما سواهما من الباطل، وهو المراد بالطاغوت ههنا، ولهذا قال:" يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوۤا إِلَى ٱلطَّـٰغُوتِ" إلى آخرها".(اهـ)
إنَّ كونَ التَّحاكم إلى الطاغُوت كُفراً, أخذ من نصِّ الكتاب، وهو أيضاً مُفسَّرٌ ومعلُومٌ، وهو خصُومة بين طرفين وجهةٌ ثالثةٌ لا تحكمُ بالكتاب والسنَّة يرضى بها الخصمان لفصل النزاع بينهما. وهذه الصُّورة نقطعُ أنَّها تُخرجُ المُتحاكم من الملَّة ،لأنَّها منصُوصةٌ، ولأنَّ فعلُ ذلك إعراضٌ عن حُكم الله، واعترافٌ بشرعيّة حُكم الجاهليَّة.
أمّا ما عدا هذه الصُّورة، مما هو في عُرف الجاهلية من صُور التحاكم، فلسنا نقُولُ إنّها تحاكمٌ مُخرجٌ من الملَّة إلا بدليل واضح كالشمس لأنَّ التقدُّم بين يدي الله ورسُوله في إصدار الأحكام من أقبح الضلال.
ولذا فإنَّ من لم تظهر منهُ إرادتُهُ ورضاهُ بفصلِ النزاع بحُكم الطاغُوت، ولم يرفع إلى الطاغُوت طلباً لفصل القضاء، ولم يدعُ خصمهُ إلى ذلك، فليس مُتحاكماً وإن جيء به إلى جلسة الحُكم وتكلَّم بالحقِّ.
ومن جعلهُ متحاكماً فلم يقُل ذلك عن دليل ثابت من الكتاب والسنَّة، بل قال ذلك من رأيه، والرأيُ يُخطئُ ويُصيبُ.
ومن النَّاس من يُقرُّ بالتعريف الصحيح للتَّحاكم، ويقُولُ:"التحاكم إلى الطاغُوت:هو إسنادُ القضاء إلى الطاغُوت، والرضى بفصلِ النزاع بحُكمه"، ولكنَّهُ يهجُرُ هذا التعريف أو ينساهُ حينما يتحدَّثُ عن قضيَّة التَّحاكم، فيقُولُ:"من دعاهُ أو دعتهُ المحكمةُ يكفُرُ بالذِّهاب، وهو مُتحاكمٌ" أو يقُولُ: "من جيء به إلى مجلس حُكم الطاغُوت فتكلَّم ودافع عن نفسه كفر، وهو مُتحاكم".
والأفضلُ الأقربُ إلى الصِّدق لهؤلاء أن يقُولُوا:" التَّحاكمُ إلى الطاغُوت: هو حضُورُ مجلسِ حُكم الطاغُوت" أو "هو التكلُّمُ في مجلس حُكم الطاغُوت"، ثُمَّ يُقيمُوا البراهين على صحَّة تعريفهم. أمَّا أن يقولُوا: "التحاكمُ هو إسنادُ القضاء إلى حاكم والرضى بفصل النّزاع بحُكمه"، ثمّ يُكفِّروا من لم يشملهُ هذا التعريف، ولم يدخُل فيه، ويجعلُوهُ مُتحاكماً، فتناقُضٌ سيئٌ يجبُ التَنَزُّه عنهُ.

(الخطأ الخامس) عدمُ التفريق بين عابد الطاغُوت والكافر به

(الخطأ الخامس) عدمُ التفريق بين عابد الطاغُوت والكافر به:
يقُولُ بعضُ النَّاس:"الحُكمُ عبادةٌ، ومجلسُ الطاغُوت مجلسُ عبادة، فكلُّ من أجاب دعوتهُ ودخل في مجلسه فهو كافرٌ وفي عبادة الطاغُوت، وإن كان مُسلما قبل مجيئه".
أقُولُ هذا الإطلاق خطأ وخطرٌ كذلك.والطاغُوتُ ليس طُغيانُهُ في الزمن اليسير الَّذي يفصلُ فيه بين المُتخاصمين، وإنّما هو طاغُوت في كُلِّ ساعةٍ، مادام على باطله واستحلاله لقيادة البشر بهواهُ، وكذلك أتباعُهُ ليسُوا كُفاراً في أثناء الجلسة فقط، بل هم كُفارٌ مادامُوا باتِّباع شرعه راضين.
والمُسلمُ كافرٌ بالطاغُوت، ولا يكُونُ بالدخُول إليه كافراً، إذا كان الدُخُولُ مأذوناً في شرع الله. وبالنَّظر إلى الأمثلة الآتية يتبيَّنُ لك خطأُ هذا الإطلاق وخطأ رمي الكُفر على كُلِّ داخل على الطاغُوت مُطلقاً أو على كُلِّ مُتكلِّمٍ في مجلس حُكمه:
(الأول) أرسل طاغُوت مُتجبِّرٌ إلى رجُلين مُسلمين، قائلا لهما: بلغتني الشكاوي بأنّكما أنكرتُما دينَنا وعبادةَ صنمِنا ،وأريدُ منكما أن تأتُوا إلينا في الصباح الباكر لتعبُدوا معنا صنمنا ، وإن غبتما عن العبادة فسوف أجعلكما نكالا لغيركما.
فاختلف الرجلان، فقال أحدهما: "أذهبُ وأقُولُ لهم الحقَّ"، وقال الآخرُ:"لا أدخُلُ مجلسَ عبادة لغير الله، بل أفرُّ بديني".
فلمَّا ذهب الأولُ إليهم، ودخل مكان الاجتماع، طلبُوا منهُ الدخولَ في عبادة الصنم، فأنكر عليهم ودعاهم إلى التَّوحيد و البراءة من الشرك، فأسلمُوا، أو غضبُوا عليه وقتلُوهُ. فأيُّ الرجُلين أعلى مكانة في ميزانِ العقيدة!!؟
أظنُّ لا اختلاف في كون الأول أعظمَ درجة، وأعلى مكانة من الثَّاني، لأنَّهُ وقف موقف الصدِّيقين، وأقام الحُجَّة على المُبطلين. وإذا فليس كلُّ دخُولٍ في مجلس عبادةِ غير الله يكونُ كُفراً مُخرجاً من الملَّة، وإنَّما الدُخُولُ على حسب نيَّة الداخل.
(الثَّاني) نشر رجُلان عقيدة الإسلام فأغضب ذلك العامَّة الجاهلة، فتآمروا على الرجُلين، واتَّهمُوهما بالباطل ولفقُوا لهما الأكاذيب، وقدَّمُوها إلى الطاغية، فأرسل إليهما يطلُبُ مجيئهما في موعد مُعيَّن. فاختلف الرجلان، فقال الأولُ: "أذهبُ إليهم وأُبيِّنُ لهُم الحقَّ "، وقال الآخرُ: "لا أدخُلُ مجلس عبادة، بل أفرُّ بديني وأخرُجُ من البلد".
فلمَّا ذهب الأولُ إليهم، وأتى المجلس ذكرُوا لهُ التُّهمة، فردّها وأظهر بُطلانها، فعرفُوا براءتهُ فتركُوهُ و صاحبَهُ. فأيُّ الرجُلين أعلى مكانة في ميزانِ العقيدة!!؟
أقُولُ: "الأول أعظمَ درجة، وأعلى مكانة من الثَّاني، لأنَّهُ برَّأ دُعاةَ الإسلام من التُّهمة الباطلة، ولم يقُل إلا حقّاً"
فإن قيل: كفرَ بإجابة الدعوة ودخُول المجلس. قُلتُ: لو كفر هذا لكفر الّذي دُعي إلى عبادة الصنم في المثال الأول. فإن قيلَ: هذا مُتحاكم.
قُلت: المُتحاكمُ طالبٌ وهذا مطلُوب ولم يُطاوع، ونيَّتُهُ مُقدَّمةٌ على نيَّةِ الكافرِ، وقد وقف موقف يُوسُف عليه السّلام، وجعفر بن أبي طالب وأصحابه. فإن قيل: هو مُتحاكم في العُرف. قُلتُ: هوغيرُ مُتحاكم في الشرع، والشرعُ أولى بالاتِّباع، والعُرفُ الجاهلي ليس مرجعاً للأحكام الدينية.
فإن قيل: كانت قضيَّة الصحابة خصومة في الدِّين، وفي مثلها يجُوز المُثُول بين يدي الطاغُوت لإحقاق الحقِّ وإبطال الباطل.
قُلتُ: الخصُومة في الدِّين، والخُصُومةُ في الأموال والدماء كلُّها خُصومات ونزاعات بين طرفين، والطاغُوت يُريدُ إصدار الحُكم لفصل الخصُومات كُلَّها، فمن وجد دليلا للتفريق بين الخُصُومات فليقُل به، ومن لم يجد فليتَّق الله ولا يُفرِّق بين الخُصُومات برأيه، ولا يزد في كتاب الله أحكاماً ما أنزل اللهُ بها من سُلطان.

(الخطأ السابع) عدمُ التفريق بين الأسير والطليق

(الخطأ السابع) عدمُ التفريق بين الأسير والطليق:
يرى بعضُ النَّاس أنَّ من سجنهُ الطاغُوت وحكمَ عليه بسجن سنوات ،إذا كتب رسالة إلى الطاغُوت الأكبر والتمس منهُ أن ينظُرَ إلى أمره، وأنّهُ قد حُكم عليه حُكما مُخالفاً لشريعة البلاد، أنَّهُ يصيرُ بالكتابة كافراً مُؤمناً بشريعة الطاغُوت.
أقُولُ:
(أولا) لا يجُوزُ الإفتاء بذلك ، وليس هذا إيمانا بالباطل لأمور:
(1) شريعةُ الطاغُوت ليست إلا كلامَ الطاغُوت، والكلامُ المكتُوب المقروء كالشفويّ إذا كان حقَّاً أو باطلاً، فلا ينبغي أنْ نضع شريعةَ الطاغُوت منْزلا من قُلُوبنا فوق منْزلتها الحقيقيّة. ولذا إذا قال لك الطاغُوت الأكبر:"أنت آمِنْ في بلدي". ثُمَّ سجنكَ جُنُودُهُ، وقدرت على الإتِّصال به، جاز لك أن تقُولَ لهُ: "إنَّك قد أعطيتني الأمان، وقد سجنني جُنُودك،وخالفُوا أمرك فهل أنت راضٍ بذلك". ولا تكُون بهذا القول كافراً مُؤمناً بشريعة الطاغُوت.
ومثلُهُ إذا علمتَ بأنّ شريعة الطاغُوت المُدونةِ تُبيحُ دخُول الأجنبيّ في هذه البلاد لأجل التجارة، فدخلتها للتجارة فسجنُوك،وقدرت على الاتِّصال بالطاغُوت،جاز لك أن تقُولَ لهُ:"إنّكم قد أبحتُم دخُول الأجنبيّ في هذه البلاد لأجل التجارة في شرعكم ثمّ سجنتمُوني أليس هذا ظُلما وتناقُضا منكم ".
(2) إنّ تذكير الكافر بشرعه الّذي خالفهُ جائزٌ للمصلحة ،كما جاء في قصّة عدي بن حاتم، وأنَّهُ جاء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يَا عَدِيُّ بنَ حَاتِمٍ أَسْلِمْ تَسْلَمْ" قلت: إني من أهل دين، قال: "أَنَا أَعْلَمُ بِدِينِكَ مِنْكَ" قال: قلت: أنت أعلم بديني مني، قال: "نَعَمْ، أَنَا أَعْلَمُ بِدِينِكَ مِنْكَ" قلت: أنت أعلم بديني مني؟ قال: "نَعَمْ" قال: "أَلَسْتَ رَكُوسِيًّا؟" قلت: بلى، قال: "أَوَلَسْتَ تَرْأَسُ قَوْمَكَ؟" قلت: بلى، قال:"أَوَلَسْتَ تَأْخُذُ الْمِرْبَاعَ" قلت: بلى، قال : "ذَلِكَ لاَ يَحِلُّ لَكَ في دِينِكَ" قال: فتواضعت من نفسي" (أحمد وابن أبي شيبة)
(3) إنَّ حُسن العدل و قبح الظلم مما تتَّفقُ عليه الأمم ، ومن ذكَّر للملك الكافر أنَّهُ مظلُوم، وطلب منهُ رفع الظُلم فقد قال حقَّا، ولا يُعدُّ مُتحاكماً في عُرف الشرع، لأنَّ طلبَ رفعِ الظُّلم شيءٌ والتحاكمُ شيءٌ آخر.
وقد قال يُوسف عليه السَّلام لصاحبه في السجن: ﴿ٱذْكُرْنِى عِندَ رَبِّكَ﴾. قال البغوي: ﴿اذْكُرْنِى عِندَ رَبِّكَ﴾ يعني: سيدك الملك وقل له: "إن في السجن غلاماً محبوساً ظلماً طال حبسه".
وقال ابن كثير في تفسيره: ﴿ٱذْكُرْنِى عِندَ رَبِّكَ﴾ يقول:"اذكر قصتي عند ربك، وهو الملك"
وقال في "قصص الأنبياء": يخبر تعالى أن يوسف قال للذي ظنه ناجياً منهما وهو الساقي: ﴿اذْكُرْنِى عِندَ رَبّكَ﴾ يعني اذكر أمري وما أنا فيه من السجن بغير جرم عند الملك. وفي هذا دليل على جواز السعي في الأسباب، ولا ينافي ذلك التوكل على رب الأرباب.
(4) إنَّ التحيُّل والكذب ومُوافقة الكُفار في الظاهر للنجاة من شرِّهم في بعض الأحيان جائزٌ في شرعنا:
روى النسائي في سننه باب:"الرجل يكون له المال عند المشركين فيقول شيئاً يخرج به ماله"
عن أنسٍ قال: "لما افتتح رسول الله خيبر قال الحجاج بن علاطٍ: يا رسول الله: إنَّ لي بمكةَ مالاً وإنَّ لي بها أهلاً وأنا أريد أن آتيهم فأنا في حل إن أنا نلتُ منك وقلت شيئاً فأذن له رسول الله فلما قدم على امرأته بمكة قال لأهله: اجمعي ما كان لك من مالٍ وشيءٍ فإني أريد أن أشتري من مغانم رسول الله وأصحابه فإنهم قد أبيحوا وذهبت أموالهم فانقمع المسلمون وظهر المشركون فرحاً وسروراً".(ورواهُ أحمد وغيره).
قال ابن القيِّم: "ليس كل ما يسمى حيلة حراماً، قال الله تعالى: "إلا المُسْتَضْعَفِين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً" أراد بالحيلة التحيل على التخلص من بين الكفار، وهذه حيلة محمودة يُثَاب عليها، وكذلك الحيلة على هزيمة الكفار، كما فعل نعيم بن مسعود يوم الخندق، أو على تخليص ماله منهم كما فعل الحَجَّاج بن علاط بامرأته، وكذلك الحيلة على قتل رأسٍ من رؤوس أعداء الله كما فعل الذين قتلوا ابن أبي الحُقَيْقِ اليهودي وكعب بن أشرف وأبا رافع وغيرهم؛ فكل هذه حيل محمودة محبوبة لله ومرضية له. "
وقال: ومنها: جواز كذب الإنسان على نفسه وعلى غيره، إذا لم يتضمن ضرَر ذلك الغير إذا كان يتوصل بالكذب إلى حقه، كما كذب الحجاج بن علاط على المسلمين . حتى أخذَ مالَه من مكة من غير مضرة لحقت المسلمين من ذلك الكذب، وأما ما نال مَن بمكة من المسلمين من الأذى والحزن، فمفسدةٌ يسيرة في جنب المصلحة التي حصلت بالكذب، ولا سيما تكميلَ الفرح والسرور، وزيادةَ الإيمان الذي حصل بالخبر الصادق بعد هذا الكذب، فكان الكذب سبباً في حصول هذه المصلحة الراجحة.
ونظير هذا الإمام والحاكم يوهم الخصمَ خلافَ الحق ليتوصل بذلك إلى استعلام الحق، كما أوهم سليمان بن داود إحدى المرأتين بشَق الولد نصفين حتى توصل بذلك إلى معرفة عين الأم.(اهـ)
(5) إنَّ المسجُون مُكرهٌ ولا خلاف بين العُلماء في الأمد الطويل:
قال الحافظ ابن حجر: "واختلف فيما يهدد به فاتفقوا على القتل وإتلاف العضو والضرب الشديد والحبس الطويل، واختلفوا في يسير الضرب والحبس كيوم أو يومين".(فتح البارئ\ كتاب الإكراه)
وقال أيضاً -في نفس المصدر- :"الإكراه هو إلزام الغير بما لا يريده، وشروط الإكراه أربعة:
1ـ أن يكون فاعله قادراً على إيقاع ما يهدد به والمأمور عاجزاً عن الدفع ولو بالفرار.
2ـ أن يغلب على ظنه أنه إذا امتنع أوقع به ذلك.
3ـ أن يكون ما هدده به فورياً، فلو قال إن لم تفعل كذا ضربتك غداً لا يعد مكرهاً ويستثنى ما إذا ذكر زمناً قريباً جداً أو جرت العادة بأنه لا يخلف.
4ـ أن لا يظهر من المأمور ما يدل على اختياره"(اهـ)
وقال الإمام الشّافعي: في رجلٍ أُسر فَتَنَصَّرَ، وله امرأةٌ فَمَرَّ به قومٌ من المسلمين، فأَشرفَ عليهم وهو في الحصنِ، فقال: إنَّما تَنَصَّرْتُ بلساني، وأنا أُصَلِّي إذا خَلَوْتُ، فهذا مُكْرَهٌ، ولا تبين منه امرأته.(الأمّ)
وإجراء كلمة الشرك على اللسان رخصة والامتناع هو العزيمة، فمن ترخص بالرخصة وسعهُ، ومن تمسك بالعزيمة كان أفضل له؛ لأن في تمسك المُسلم بالعزيمة إعزازُ الدين، وغيظُ المشركين، فيكون أفضل. وإن امتنع من ذلك حتى قتل لم يكن آثماً، بل هو مأجور فيه.
(ثانياً) وأمَّا ما يُعرفُ بـ"استئناف الحُكم"، فإن كان معناهُ طلب إلغاء الحُكم السَّابق، وإعادة جلسة المحكمة، أو الإحالة إلى محكمة أُخرى لتحكم في القضية من جديد فلا شكَّ أنَّهُ طلبٌ للتحاكم ورضى به. ومن فعلهُ مُختاراً غير مُكره ولا مأسُور،فهُو يكفُرُ به.
ولا أدري لماذا يُثارُ حولها الجدلُ مع وضُوحها، لأنَّ الَّذي تحاكم فحكمت المحكمة لصالح غيره، فقد كفر بهذا التحاكم، فإن طلب جلسةً أخرى فقد تمادى في الضلال. وإن كان قد تاب من الأول، ثمَّ طلب من المحكمة استئناف الحُكم، فقد عاد إلى الكُفر الَّذي تاب منهُ.
ولا يصلُحُ قولُ يُوسف عليه السَّلام:﴿ٱذْكُرْنِى عِندَ رَبِّكَ﴾..الآية. للاستدلال به على جواز طلب "استئناف الحُكم" إذ ليس فيه إلاّ أن تُذكر قصتهُ للملك، وأنَّهُ مسجُونٌ ظُلماً.
قال ابن كثير: ﴿ٱذْكُرْنِى عِندَ رَبِّكَ﴾ يقول:"اذكر قصتي عند ربك، وهو الملك"ولكن في الآية جوازُ استعانة المُلُوك في استرداد الحُقُوق.

(الخطأ الرابع) التفريق بين المسائل في التَّحاكم

(الخطأ الرابع) التفريق بين المسائل في التَّحاكم:
يبدوا من كلام بعض من كتب عن التَّحاكم أنَّهُ يُفرِّقُ بين المسائل، ويرى أنَّ من أجاب دعوة الطاغُوت يكفُرُ إذا كانت الخصُومة في مال أو دم أو عرض . ولا يكفرُ إذا كانت في عقيدة.
وهذا التفريق لا تُؤيِّدُهُ الأدلَّةُ، ويظهرُ بُطلانهُ لمن نظر إلى أمرين:
(الأول) الطاغُوت يدّعي الربوبية والحاكمية، ويرى أنَّهُ صاحب الحقِّ في فصل القضاء، في كُلِّ المسائل، سواء تولَّى القضاء بنفسه، أو ناب عنه القاضي أو غيرهُ. وتنُصُّ جميعُ الدساتير الوضعية الَّتي يضعُها الطواغيت في هذا الزمن على تقرير كثير من المسائل العقدية. فيقُولُون مثلا: "إنَّ الدِّين الرسمي للبلد هو كذا"، و"دولتُنا دولةٌ ديمقراطية"، و"المُواطن لهُ الحقّ والحُرِّية في اختيار الدِّين"، و"الزنا ليست جريمة إذا كانت تراضياً بين الطرفين"، و"لا يحلُّ الانتماء إلى جماعة مُنظَّمة". وغير ذلك.
ومن المعلُوم أنَّهم لا يضعُون هذه المواد القانُونية إلاّ للاعتماد عليها في الفصل بين النَّاس في الخصومات، والقضاء على المُعارضات والثَّورات. فمن رضي بحكم الطاغُوت في العقائد يكُونُ أشدُّ كُفراً ممن رضي بحُكمه في الدماء والأموال والأعراض.لأنَّ شأنَ العقائد أعظمُ من شأن الأحكام الفرعية كما هُو معلُوم.
وإذا كان الَّذي لا يتحاكمُ إلي الطاغُوت في الخصومات الدينية، لا يكفُرُ بمُجرَّد إجابة دعوته إلى الحضُور والدخُول في النِّقاش الديني. فإنَّ الَّذي لا يتحاكمُ إليه في الخصومات المالية لا يكفرُ أيضاً بمجرَّد إجابة دعوته إلى الحضور والدُخُول في النِّقاش المالي، وهذه من البديهيات.
(الثاني) لا تُوجدُ من الأدلّة ما يُفرِّقُ بين قضيَّة وأخرى ،أي ما يُبيِّنُ أنَّ لهُ الحقَّ في الفصل بين النَّاس في القضايا الدينية، دون قضايا الدماء والأموال. لأنَّ الطاغُوت عبدٌ، وتجبُ عليه التَّوبة من الطُغيان، وأن يخضع وينقاد لأمر ربِّه، وليس لهُ الحقُّ في فصل القضاء ، ولا فرقَ بين قضيّة وأخرى في ذلك. ومن فرّق بين القضايا ،وأجاز التحاكُم إلى الطاغُوت في بعضها دون بعضها فعليه الدليل. بل الحقُّ أنّ الله وحدهُ هو الّذي لهُ الفصل في كلِّ قضيَّة اختلف فيها النَّاسُ.
قال تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ (الشُورى)
وقد جاء هذا النصُّ في معرض الحديث عن الاختلاف في الكُفر والإيمان.
قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ. وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ.أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ﴾ (الشُورى:7ـ10)
وعلى هذا إذا قال مُسلمٌ:"مُحمَّدٌ رسُولُ الله" أو "القُرآنُ كتابُ الله" فنازعهُ الكُفارُ من قومه، وقالُوا:"بل ضللتَ". ثُمَّ رضي المُسلمُ بالتحاكم إلى سيّد القبيلة وقطع التنازع بقوله، فإنَّهُ يرتدُّ بهذا التحاكم، بل بمجرَّد الإرادة.
وإن تنازعُوا في دم أو مال أو عِرض فرضي المُسلمُ بالتحاكم إلى سيّد القبيلة وقطع التنازع بقوله، فإنَّهُ يكفرُ بهذا التحاكم، بل بمجرَّد الإرادة.
قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيدًا﴾ (النساء:60)
إلى قوله تعالى: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ (النساء:65).

(الخطأ السادس) عدمُ التفريق بين مجالس الكُفر

(الخطأ السادس) عدمُ التفريق بين مجالس الكُفر:
يقُولُ بعضُ النَّاس:"مجلسُ الطاغُوت مجلسُ كُفرٍ، لا سيّما المحكمة، فيكُونُ الجالسُ كافراً مثلهم"، وهم في ذلك لا يُفرِّقُون بين مجالس الكُفر. و مجالس الكُفر ليست كلُّها على مُستوى واحد في نظر الإسلام، فينتُجُ من هذا القول المُطلق أن يُكفِّروا من لا يستحقّ التكفير. ومجالسُ الكُفر على نوعين:
(الأول) مجلسٌ لا يحلُّ لمُسلم أن يجلس فيه، وهو الَّذي يُكفَرُ ويُستهزؤُ فيه بآيات الله، فمن جلس من غير إكراه أو نسيان، ومن غير ردٍّ على الكافرين، ومن غير مصلحة شرعيّة تُبيحُ لهُ الجُلوس، صار مثلهم عند الله، أمَّا في أحكام الدُنيا،فقد يصيرُ مُرتدّاً مُصرّاً على ذلك، وقد يكُونُ مُنافقاً كمن تكرّرَ منهُ ذلك ولكنَّهُ في كُلِّ مرَّة يعتذرُ بحُسن القصد أو غير ذلك مما يعتذرُ به المُنافقُون."يحلفُون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا". وقد جاء النَّهيُ عن هذه المجالس في الآيات الآتية:
قال تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ (الأنعام:68ـ69).
وقال: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾ (النساء:140)
(الثّاني) مجلسٌ يُكفرُ فيه بالله، ومع ذلك يحلُّ للمُسلم أن يجلس فيه ولو إلى وقت، و لهُ أمثلةٌ منها ما يأتي:
1) مجلسُ الدعوة والمُناظرات: وفي القُرآن ذكرُ كثيرٍ مما جرى بين المُرسلين والمُشركين
حيثُ يكفُرُ المُشركُون بالله ورسُله واليوم الآخر، والرُّسُلُ تنصحُهم وتردُّ عليهم بالحُسنى.
2) مجلسُ المُفاوضات: وقد كان جائزاً للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن يُفاوضوا الكُفّار، وأن يصطلحوا معهم على أُمور، وهم يشهدون على أنفسهم بالكفر، ويصرحون بعدم إيمانهم لرسالة الله، كما وقع في صُلح الحُديبية فإنَّهم رفضُوا كتابة "الرحمن" وكتابة "رسُول الله".
وكان يتمّ التَّفاوُضُ والمسلمون غيرُ محاصرين ولا مكرهين، بل حملهم على المصالحة والمفاوضة مصالحٌ لهم راجحةٌ، كالحصول على فترة أمنٍ يؤدّون فيها العُمرة،أو يجدون فرصةً للدعوة أو للاستعداد لمعركةٍ فاصلة.
3) مجلسُ التعامُل المُباح: المسلم قد يدخل في تعامل مع قوم كفّار كالبيع والشراء والإجارة والمعاهدات وقد ينكح الكتابية وقد يتسرّى بالمشركة بملك اليمين .. ولم يشترط الإسلام لصحة هذه العقود أن لا يتكلّم الكافر في أثناء العقد أو بعده بشيء من دينه الكفري.
فالذي ينكح النصرانية يسمع منها وهي تدعو مخلوقاً من دون الله ويسمع وهي تقول: "ربّي عيسى"، وتؤمن بالصلب والفداء وغير ذلك، فلا يجوز له أن يضربها أو أن يهرب من منْزله بسبب كفرها، ولكن يحاول أن يجادلها بالتي هي أحسن حتى تقتنع بالإسلام في حريّة تامّة، ولا يدخل معها في خصومات يومية مستمرّة،ـ لأنَّهُ تزوَّجها وهُو يعلمُ كُفرها ـ وإنّما يتحيّن الفُرصة المناسبة للدعوة إلى الله.
فما الذي يمنع أن يجلس المسلم مع الكفّار ليبرّئ نفسَه من تُهمٍ خطيرةٍ قد تذهب بنفسه أو تُلجئه إلى الفرار من بلده الذي فيه أهله و يقوم فيه بالدعوة إلى الله.
وإذا جمع المجلسُ كفّاراً ومسلماً وكلّما تكلّموا بالباطل تكلّم بالحقّ وبيّن الصواب، وأنكر باطلهم، ولم يقبَل منهم شرعاً ولا حكماً، فقد أدّى ما عليه، وهم بالخيار أن يجوروا ويعتدوا عليه أو أن يتركوه.
إنّ الكفّار يزعمون أنّهم في محكمةٍ شرعية مقدّسةٍ، والمسلمُ يعتقد أنّه أمام طاغوتٍ حقيرٍ قد كتب هواه أو هوى متبوعه في أوراقٍ وسمّاها شريعةً .. فهو لا يعترف بالقاضي ولا بأحكامه، ويتكلّم ويتصرّف في حدود الشريعة الإلهية.
ومن القواعد الأصولية:"أنّ ما حُرّم لذاته تُبيحه الضرورة، وما حُرِّم لغيره تُبيحه الحاجة". والجلوس في مجالس الكفر حُرِّم حتى لا يتأثّر المسلم بباطلهم فيميل إليهم ويتابعهم على دينهم الباطل، ويدلّ على ذلك أنّ الجلوس لا يكون محرّماً على المناظر المجادل الذي يُبيّن لهم بُطلان دينهم.

(الخطأ الثالث) التفريق بين الطواغيت في التَّحاكم

(الخطأ الثَّالث) التفريق بين الطواغيت في التَّحاكم وفي استرداد الحُقوق:
هناك من لا يرى "التحاكم إلى الطاغوت" أصلاً، وهو المطلوب من كل مسلم ولكنّه يقول: "لا يجوز الذهاب لاسترداد الحقّ إلى من نصب نفسه لفضّ النّزاع وينتظر التحاكم، ولكن يجوز الذهاب إلى رجلٍ كافرٍ له سلطةٌ ووجاهةٌ لاسترداد الحقّ". وحجّته أنّ الأول طاغوت وأن الثاني ليس بطاغوت.
جاء في رسالة "ميراث الأنبياء": "ومن هُنا لابدَّ أن نُفرِّق بين من يذهبُ إلى أصحاب الوجاهة وأصحاب السُّلطة الَّذين ليسُوا بطواغيت فيستعينُ بهم على ردِّ مظلمته أو يطلُبُ منهم الحماية ، وبين من يذهبُ هُو وخصمُهُ إلى القُضاة الطواغيت الَّذين نصبُوا أنفُسهم معبُودين في الأرض يحكمون النَّاس بأحكام الطواغيت فيتحاكمُ إليهم ويفضُّ النّزاع عندهم"(اهـ)
أقُولُ:
(أولا) لا شكَّ أنَّ من يذهبُ هُو وخصمُهُ إلى القُضاة الطواغيت فيتحاكمُ إليهم ويفضُّ النّزاع عندهم أنَّهُ يكفُرُ بذلك.
ولكن هذا التفريق الَّذي يجعلُ بعض أصحاب السُّلطة ممن تجُوزُ الاستعانة بهم في ردِّ المظالم ويجعلُ بعضهُم ممن لا تجُوزُ الاستعانة بهم في ذلك.. ليس بصحيح، لأمُور:
(1) إنّ الرجل الكافر الذي له سلطة ووجاهة لا شكّ أنّه رجل متبوع، وكل متبوع بالباطل فهو طاغوت في اصطلاح الشرع. ولو كان رجلاً فرداً لا يتّبعه أحدٌ ما جاء إليه أحدٌ لردّ الحقوق.
قال الإمام ابن تيمية: "والمطاع في معصية الله، والمطاع في إتباع غير الهدى ودين الحق ـ سواء كان مقبولاً خبره المخالف لكتاب الله، أو مطاعاً أمره المخالف لأمر الله ـ هو طاغوت؛ ولهذا سمي من تحوكم إليه، من حاكم بغير كتاب الله طاغوت، وسمي الله فرعون وعاداً طغاة" (الفتاوى:28\190)
(2) إنّ "كعب بن الأشرف" الذي هو سبب نزول الآية لم يكن رجلاً له جنود وسجون ومبنى محكمة، وإنّما كان سيداً عادياً من سادات اليهود المتبوعين.
(3) لم يكن في المجتمع العربي في ذلك الزمان نظامٌ وشريعةٌ تُحدِّدُ الذي يستحقّ أن يُتحاكم إليه، بل كان ذلك حقّاً للخصوم، فإن شاؤا ذهبوا إلى سيّد قبيلة أو كاهن أو سادن أو ساحر أو ملك من الملوك، بخلاف المسلمين فإنّهم لم يكونوا يرجعون إلاّ إلى الكتاب والسنَّة.
والقصة المروية في سبب نزول آيات النساء تدلُّ على أنّ الخصمين اختلفا في الجهة التي يتحاكمون إليها، فقال اليهوديُّ:
نتحاكم إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- لعلمه بأنّه يقضي بالحقّ ولا يأخذ الرشوة. وقال المنافق: إلى "كعب بن الأشرف" لعلمه بأنّه يأخذ الرشوة.
(4) ليس معنى الآية تحريم التحاكم إلى الطاغوت، وإباحته إلى غيره، لم يقُل ذلك أحدٌ من مُفسِّري الآية، بل المراد تحريم التحاكم إلى غير الكتاب والسنّة سواء كان الذي يُطلبُ منه فصل القضية وإنهاء الخصومة بإصدار الحكم رجلاً معروفاً بهذه الوظيفة، أو كان سيّداً له وجاهة، قد يحكم أحياناً بين الخصوم، أو كان رجلاً لم يحكم بين خصمين قط قبل الحادثة الواقعة الراهنة، فكل من يتصدّى للحكم بين الناس بغير ما أنزل الله فهو الطاغوت المذكور في القرآن، ولا عبرة بالزمن الذي مارس فيه هذه الوظيفة، فالسنة والشهرُ واليوم سواء.
(ثانيا) كان الطواغيت الجبابرة وملُوك الأمم القديمة يتصرَّفُون في شُئون النَّاس، ويفصلُون بينهم، ولم يَكُن أمراً مُستغرباً في المُجتمع أن يقُومَ الحاكمُ بثلاثة وظائف بنفسه وهي:
1) النّظرُ في الشكاوي، وإحضار من ادُّعيَ عليه، وقبض الهارب.
2) الفصلُ في القضايا، وإصدار الأحكام، وبيان العُقُوبات.
3) التنفيذ وانزال العُقُوبات على المُستحقِّين في رأيه.
ثُمَّ دلَّت الأدلَّةُ على جواز الإستعانة بالمُلُوك وذوي الوجاهة من المتبُوعين ـ مع طُغيانهم ـ في استرداد الحقُوق وتبرئة النَّفس من التُّهم. واستردادُ الحُقُوق لا تنحصرُ في الأموال، بل تشملُ الأعراض، والأمن ،والإقامة ،والعمل في الأسواق وغير ذلك. فمن خاف في البلد الَّذي وُلد فيه، فطلب جوار رجُلٍ متبُوع، فإنَّهُ يُريدُ استعادة حقِّه من الأمنِ.
ومن تلك الأدلّة:
(1) ما ورد في قصَّة يُوسف عليه السَّلام من قوله لعزيز مصر لتبرئة نفسه من التُّهمة: ﴿هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي﴾ [يوسف: 26]
قال ابنُ كثير: "فألفيا سيدها وهو زوجها عند الباب، فعند ذلك خرجت مما هي فيه بمكرها وكيدها، وقالت لزوجها متنصلة وقاذفة يوسف بدائها ﴿مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوۤءًا﴾ أي فاحشة ﴿إِلا أَن يُسْجَنَ﴾ أي يُحبس ﴿أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أي: يُضرب ضرباً شديداً موجعاً. فعند ذلك انتصر يوسف عليه السلام بالحق، وتبرأ مما رمته به من الخيانة، و"قَالَ" باراً صادقاً :﴿هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي﴾. وذكر أنها اتبعته تجذبه إليها حتى قدت قميصه.
(2) وقوله: ﴿ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ﴾
قال الإمامُ الطبري: وقوله: ﴿فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ﴾ يقول: فلما جاءه رسول الملك يدعوه إلى الملك، ﴿قالَ ارْجِعْ إلـى رَبِّكَ﴾ يقول: قال يوسف للرسول: ارجع إلى سيدك ﴿فاسألْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أيْدِيَهُنَّ﴾. وأبى أن يخرج مع الرسول وإجابة الملك حتى يعرف صحة أمره عندهم مما كانوا قذفوه به من شأن النساء، فقال للرسول: سل الملك ما شأن النسوة اللاتي قطَّعن أيدَيهن، والمرأة التي سُجِنتُ بسببها
قال ابن عباس: لو خرج يوسف يومئذ قبل أن يعلم الملك بشأنه، ما زالت في نفس العزيز منه حاجة، يقول: هذا الذي راود امرأته (الطبري)
قال ابن كثير: فقال: ﴿ٱئْتُونِى بِهِ﴾. أي: "أخرجوه من السجن وأحضروه"، فلما جاءه الرسول بذلك امتنع من الخروج حتى يتحقق الملك ورعيته براءة ساحته ونزاهة عرضه مما نسب إليه من جهة امرأة العزيز، وأن هذا السجن لم يكن على أمر يقتضيه، بل كان ظلماً وعدواناً، فقال:﴿ٱرْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ﴾ الآية.
وقد وردت السنة بمدحه على ذلك والتنبيه على فضله وشرفه وعلو قدره وصبره، صلوات الله وسلامه عليه، ففي المسند والصحيحين من حديث الزهري عن سعيد وأبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم:"نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال ﴿رَبِّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ﴾ الآية، ويرحم الله لوطا كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لبثتُ في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي. (اهـ)
قُلتُ: وقولُهُ صلى الله عليه وسلّم: "لأجبت الداعي "نصٌّ في جواز إجابة دعوة الملك الكافر.
(3) ذكر القُرآنُ أنَّ إخوة يوسف برَّأُوا أنفُسهم من تُهمة السرقة، وقالُوا: ﴿تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِى الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَـارِقِينَ﴾ وكانُوا يرون يُوسُف أنَّهُ من الأسرة الحاكمة الكافرة .
قال الإمام ابن تيمية: "ولهذا كان إخوة يوسف يخاطبونه قبل أن يعرفوا أنه يوسف ويظنونه من آل فرعون بخطاب يقتضي الإقرار بالصانع كقولهم: ﴿قَالُواْ تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِى الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ﴿ [يوسف: 73].
(4) وموسى عليه السلام لما عابه فرعون بقتله النفس قائلاً: ﴿وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ [الشعراء: 19]. أجاب: ﴿فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ. فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الشعراء: 20-21]
(5) ما ورد في السيرة من طلب النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلّم جوار سهيل بن عمرو والأخنس بن شريق والمُطعم بن عدي ،فأجارهُ الأخيرُ وقال في الملأ من قُريش: "ألا إنِّي قد أجرتُ مُحمَّداً فلا يُهجهُ أحد". وكان سببُ طلب الجوار في مسقط رأسه، هو الخوف من أذى سُفهاء قُريش.
(6) إذنُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلّم لأصحابه أن يدخلُوا جوار النَّجاشي مللك الحبشة، وكانُوا نصارى. وقال: "إنَّ بِهَا مَلِكًا لا يُظْلَمُ النَّاسُ بِبلاَدِه ، فَتَحَرَّزُوا عِنْدَه حَتَّى يَأتيكُم اللَّهُ بِفَرَجٍ مِنْه"
والمُلوك والرؤساء الطواغيت في هذا الزمن لا يزالُون يتولون من الأعمال ما كان يتولَّاهُ أمثالهم من المُلوك، إلَّا إنَّهم تطوَّرُوا في التنظيم وتوزيع الوظائف.
فـ"البوليس": هم عينُ الطاغُوت السَّاهرة لحراسة الأمن. وهم يقبضُون من يُرادُ قبضُهُ، ممن اتُّهِم في جريمة أو ذنب. ثُمَّ يُحيلُونهُ إلى المحكمة.
و"المحكمة" هي مؤسَّسة قضائية للطاغُوت، للتحقيق وتمييز المُذنب من البريء في شريعة الطاغُوت. فتقُولُ:"هذا مُذنبٌ بنصِّ مادَّةِ كذا وكذا، وعُقُوبتُهُ كذا وكذا بنصِّ مادَّة كذا وكذا". أو تقُولُ:"هذا بريء، يجبُ الإفراجُ عنهُ في شريعة البلد".
و"قُواتُ التهذيب" هم سيفُ الطاغُوت وسوطه، فيُنفِّذون ما قرَّرتهُ المحكمةُ، فيقتُلُون المحكوم عليه بالإعدام، ويحرسُون المحكُوم عليه بالسِّجن مُدَّة سجنه.
فترى أنَّ وظيفة الطاغُوت القديمة في الأمُور الداخلية، الَّتي هي القبضُ والمُحاكمةُ والتنفيذُ لم تتغيَّر، وإنَّما تغيَّر مُجرَّد طريقة تنظيم وتوزيع الأعمال. فما كان يقُومُ به رجلٌ واحدٌ في القديم، تقُومُ به في هذا الزمن مُؤسَّسات مُتعدِّدة. وكُلُّها على تفرُّقها تُشغلُ وظيفةً واحدةً هي:"وظيفةُ الطاغُوت".
وإذا ثبت أنَّ التحاكم إلى الطاغُوت كان مُحرَّما في زمن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلّم، وكانت الإستعانةُ به في استرداد الحُقُوق مُباحةً، فلا شكَّ في أنَّ التحاكم إليه في هذا الزمن مُحرَّمٌ، والإستعانةُ به في استرداد الحُقُوق مُباحةٌ.
وعلى ذلك فمن تحاكم إلى ضابط البوليس، أو قاضي المحكمة، أو ضابط قُوات التهذيب، أو غيرهم من أصحاب السُّلطة، أوغيرهم من العامّة، فقد كفر. وفي الجانب الآخر، من استعان بضابط البوليس، أو قاضي المحكمة، أو ضابط قُوات التهذيب، أو غيرهم من أصحاب السُّلطة، أوغيرهم من العامّة، في استرداد حقِّه لم يكفُر ولم يأثم.
وهُنا نُقطةٌ لابُدَّ من التنبيهِ عليها، وهي أنَّ النَّاس قد اعتادُوا في هذه الجاهليَّة، أنَّ القاضي لا يُذهبُ إليه إلا عند التقاضي والتَّحاكم ،وصار ذلك عُرفَ البيئة الجاهلية، فإن قُلتَ:"تجُوزُ الاستعانةُ بالقاضي بدون تحاكم" يظنُّ بعضُ الغيورين المُتأثِّرين بعُرف البيئة، أنَّك تستحلُّ التحاكم إلى الطاغُوت، وتتحيَّلُ لذلك.وهذا قُصُورٌ وسُوءُ فهمٍ.
هَبْ أنَّ مُسلماً ظُلمَ في دار كُفرٍ ،وأُخذ مالُهُ، ولا يعلمُ في البلدِ من يُعينُهُ إلا القاضي الأكبر، للقرابة الَّتي بينهما، وهذا القاضي يعلمُ عقيدةَ المُسلمِ، وأنَّهُ لا يتحاكمُ ولا يرفعُ شكوى إليهم ، فما الَّذي يمنعُ أن يذهبَ إليه المُسلمُ، ويُخبرَهُ بحاله، ويقُول لهُ:"أدرك مالي وهو عند فلان". أظنُّ لا أحدَ من العُلماء أو العُقلاء يشكُّ في جواز ذلك.
فالقاضي وغيرُهُ سواءٌ في تحريم التَّحاكُم إليهم، وسواءٌ في جواز الاستعانة بهم في استرداد الحقُوق المنهُوبة .
(ثالثا) قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فإن لصاحب الحقّ مقالاً". [مُتَّفق عليه].
وليس طلبُ استرداد الحقِّ والتحاكم مُتلازمان دائما، كما يظنُّهُ بعضُ النَّاس والسببُ أنَّهم لا يقدرون على التفريق بين "التحاكم إلى الطاغوت" وبين "مطالبة استرداد الحقّ عند الطاغوت" فيضعون هذه مكان تلك. وللتفريق بينهما أضربُ مثلاً لكلٍّ مِن المعنيين:

المثل الأول: أخذ رجلٌ كافرٌ من مسلمٍ قدراً من المال ثم أبى أن يردَّه إليه، فلما ألحّ المسلمُ على الطلب قال له الكافرُ: "نذهب إلى الرئيس أو الوزير أو سيد القبيلة أو الكاهن أو الساحر أو رجلٍ آخر .. فإن حكم لك أعطيتك ما تطلب، وإن حكم لي تركتَ المطالبة". فيقول المسلم: "قد رضيتُ بذلك".
فالأمر إذا وقع على هذا الشكل فلا شكّ أنّه تحاكم، وأنّ هذا الذي كان مسلماً قد ارتدّ بسبب رضاه بالانقياد لحكم الطاغوت، ردَّة صريحة أو ردّة نفاق.
المثل الثاني: أخذ رجلٌ كافرٌ من مسلم مالاً وأبى أن يردّه إليه، فذهب المسلم إلى أبي الرجل الظالم ـ وهو الرئيس أو الوزير أو القاضي أو الكاهن أو الساحر أو سيّد القبيلة أو البدويّ ـ فقال له: "أُريد أن تأخذ لي حقِّي من ابنك". فذهب الوالد - مهما كان منصبه ولقبه- إلى ابنه الظالم فنَزع الحقّ منه وردّه إلى المسلم .
فهنا قد استردّ المسلمُ حقَّهُ واستنجد بالطاغوت دون أن يرضى بحكمه . ومثلُهُ إذا لم يكن الكافر الظالم ابناً لأحدٍ من أولئك، ولكنّ المسلم استنجد بهِم لاسترداد حقّه، فأخذوا لهُ من الظالم، فيكون المسلم كذلك مستردّاً لحقّه بدون تحاكم إلى "طاغوت".
ولكن يمكن أن يقول الرئيس أو الوزير أو القاضي أو سيّد القبيلة للرجل المسلم: "نحن لا ندري أيُّكم الصّادق وأيّكم الكاذب وللبلد شريعة ومحكمة فنريد أن نحيل القضية إلى "المحكمة"، فاكتب الشكوى في ورقةٍ وقدّمها إلى القاضي، وارض بما حكم".
فإن قالوا ذلك لمسلم صحيح الدِّين، فإنّه لا بُدّ أن يرفض هذا، لأنّه دعوةٌ إلى التحاكم إلى الطاغوت، وفي التّحاكم إليه اعترافٌ بشرعيَّته. فلابُدَّ أن يقول: "إنّ حقّي واضحٌ ولا أشكُّ أنّ ابنكم أو أخاكم ظلمني، وإنّ ديني لا يُبيح لي التحاكم إلى مثل محكمتكم، ولا أرى باب الكلام إلاّ قد انسدّ".
فإتيان الرجل إلى الطاغية للتحاكم وفصل الخصومة هو الممنوع، أما إتيانه للدعوة إلى الله أو لطلب ردّ الحقّ الذي يقدر عليه أو لتعاملٍ مباحٍ كالبيع والشراء وما إلى ذلك فليس بحرامٍ في شريعتنا الإسلامية.
ومن الخطأ والجهل الاستدلال بالنُّصُوص المُحرَّمة للتَّحاكم إلى الطاغُوت، على تحريم الذهاب إليه مُطلقاً، أو على تحريم الذهاب إلى بعضهم دون بعضهم. وتعرفُ بذلك ما يأتي:
(1) إنّ الله تعالى قال: ﴿يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ﴾[النساء: 60]. فجعل إيمان من يريد التحاكم إلى الطاغوت زعماً، ولم يقل الله تعالى: "كلّ من أتى إلى الطاغوت كافرٌ بالله وإن لم يكن في قلبه نية التحاكم وفصل الخصومة بحكمه". ولا يحلُّ للمسلم أن يزيد في كتاب الله ما ليس منه من الأحكام ، وعليه أن يكون وقَّافاً عند نصِّ الكتاب والسنّة.
(2) قد بيّنا أن الطاغوت ليس القاضي الكافر وحده، بل يشمل اسم "الطاغوت" الرئيس والوزير وسيّد القبيلة وغيرهم من المتبوعين بالباطل، فإن صحّ هذا فلا يجوز أن نُفرِّق بين الطواغيت بآرائنا، ونقول: الذهاب إلى هذا كفرٌ، وإلى هذا ليس بكفرٍ، بدون حجّةٍ قاطعةٍ من الله ورسوله. بل الصواب أن نقول: "الذهاب إلى الجميع لأجل التحاكم وفصل النّزاع كفرٌ، والذهاب إلى أحدٍ منهم بدون نية التحاكم كإجابة دعوته ليس كفراً".
(3) إنّ رئيس الدولة أو الملك الكافر أبعدُ في "الطغيان" من القاضي، لأنّ القاضي ما هو إلاّ نائبٌ من نوابه، الذين ولاّهم التصرّف في الأمور من غير الرجوع إلى الكتاب والسنّة، فهو جعل على كلّ إقليم رجلاً ينوب عنه، ثم اتّخذ "وزير الزراعة" و "وزير الصناعة" و"الخارجية" و"الداخلية" و"الصحّة" و"التجارة" و"العدل" .. إلخ. وكل واحدٍ من أولئك النواب والوزراء والقضاة ما هو إلاّ خطيئة من خطايا الرئيس أو الملك الكافر. فكيف يكون الذهاب إلى الطاغوت الأكبر بدون نية التحاكم جائزاً ولا يكون الذهاب إلى الطاغوت الأصغر بدون نية التحاكم جائزاً.
(4) ثبت في الشريعة أنّ من وقع في الحرام يكون مذنباً يحتاج إلى تطهير، كمن شرب الخمر باختياره. وإن دعاه غيره إلى شرب الخمر بدون إكراه فشرب معه، فهو في حكم شارب الخمر، ولا يكون كافراً بهذه الطاعة في المعصية .
ويدلُّ على ذلك كونُ كلّ مذنب مطيعاً للشيطان ومستجيباً لدعوته، وعدم كونه بهذه الطاعة وحدها كافراً لأنّه فعله باختياره واتّباعه لشهواته. وعلى ذلك فإنّ من فعل المباح أو دُعي إلى مباحٍ فأجاب لا يكون متجاوزاً لحدود الله بهذه الطاعة في المباح.
ولم يحرّم اللهُ الذهاب إلى الطاغوت تحريماً عاماً يشمل من يريد منه التحاكم، ومن يريد منه الإسلام، ومن يريد منه ترك الظلم وردّ المظلمة إلى أهلها، بل نعلم بيقين أن رسل الله قد وقفوا بين يدي "نمرود" و"فرعون" و"أبي جهل" وأمثالهم ودعوهم إلى الله. ووقف الصحابة بين يدي "كسرى" و"هرقل" و"النجاشي" و"المقوقس" وأمثالهم، ودعوهم إلى الله ،كما هو ثابت في كتب الأحاديث والتواريخ.
وقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم "عثمان بن عفان" إلى مكّة ليُخبر طواغيتها المطاعة بأنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يأتِ لقتالٍ وإنّما جاء للعُمرة. وذهب "محمد بن مسلمة" وأصحابه إلى "كعب بن الأشرف" مرّتين بنية قتله. وذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي جهل ليأمره بردّ مظلمة الرجل الغريب كما ثبت في سيرة ابن هشام.
فإذا كان ابتداء الذهاب إلى الطاغوت تُبيحه الشريعة، بل توجبه أحياناً فالقول بأنّ إجابة طلب الطاغوت بالمجيء كفرٌ أمرٌ يحتاج إلى دليل ثابتٍ، وليس ذلك مما يجوز فيه القول بالرأي.
فالصواب أن نقول: "إذا كان ابتداءُ الذهاب مُباحاً فإجابة الطلب مباحة كذلك، كما أنّ ابتداء فعل المعصية وإجابة الداعي إليها سواء".
أمّا الأمرُ الثابت الذي لا شكّ فيه فهو صحة تكفير من رفع النّزاع إلى من لا يحكم بالكتاب والسنّة، وانتظر منه الحكم لتنقطع الخصومة بعدها، لأنّ الأدلّة القرآنية دلّت على ذلك.
(5) ثبت في سيرة ابن هشام أنّ طواغيت مكّة الذين كانوا يقودون قومهم إلى الضلال وتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم، والذين وصفهم الله تعالى بـ"أكابر المجرمين" في قوله تعالى:﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا﴾ [الأنعام: 123].
اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة ثم قال بعضهم لبعضٍ: ابعثوا إلى محمّد فكلّموه وخاصموه حتى تُعذروا فيه، فبعثوا إليه: إنّ أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلّموك فأتهم، فجاءهم رسول الله صلى الله عليه سريعاً. [السيرة النبوية: 295]. (طبعة مؤسسة علوم القرآن).
وجاء في هذا الخبر أنّ النبي صلى الله عليه وسلم ظنّ أنّهم يريدون الإسلام، ولكن لما جاءهم دعوه إلى ترك الدعوة وعابوا دينه، فأجابهم بالحقّ وانصرف عنهم. فمن ذلك تعرف:
أنّ الكافر الطاغوت إذا دعا المسلم فإنّه قد يدعوه إلى الكفر والضلال، فإذا دعوا المسلم إلى ذلك فعليه أن يردّ عليهم بالحقّ، ويُظهر لهم ضلالهم كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القصة وغيرها.

(الخطأ الثاني) إعتبار ما لم يعتبره الشّرع

(الخطأ الثاني) اعتبار ما لم يعتبرهُ الشرع:
من أوليات الحقائق الدينية الَّتي يُعلِّمُنا الإسلام أن نعلم:"أنَّ في هذا العالم شريعةً واحدةً هي شريعةُ الله وما عداها فهُو الهوى"
قال تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ (الجاثية:18)
وقال:﴿بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ. فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ (الروم:29-30)
والإنسانُ إذا لم يتَّخذ كتاب الله هادياً، فكُلُّ الأوامر والنَّواهي الَّتي يُشرِّعُها، ويضعُها لتنظيم حياته لا تكُونُ إلا صُورة من صُور "الهوى". فإن صاغُوها على شكل منظُومة شعرية، أو على شكل مواد قانُونيّة ثابتة، أو تركُوها غير مُدوَّنة وتُؤخذُ من أفواه الطواغيت شفويّاً، فكلُّ ذلك سواءٌ ولا تخرجُ عن كونها من "هوى البشر".
وعندما نتكلَّمُ عن أبواب التَّحاكم، يجبُ أن نضعَ كلَّ صُور "الهوى" في كفة، وشريعة الله في كفة، وأن لا تجتذبُنا النظرةُ الجاهليَّة إلى التَّحاكم، و بريقُ المحاكم العصرية والقوانين العصرية، فنظنُّ أنَّها شيءٌ جديدٌ مُخالفٌ للأهواء القديمة، ويحتاجُ منَّا إلى اجتهادات وأحكام جديدة، بينما هي في الحقيقة لا تعدُوا أن تكُون صُورة من صُور "الهوى" الَّذي ذكرهُ اللهُ في كتابه مُنذُ زمن بعيد.
وقد لاحظتُ في أفكارِ بعض الَّذين أخطأوا في فهم جوانب من قضية التَّحاكم، تضخيمهم السُلطان الجاهلي، وتأثُّرهم بعُرف البيئة ونظرتها الجاهلية إلى أمُور التحاكم من حيث لا يشعُرون، وأنَّهُم يضعُون شرائع الجاهلية ومحاكمها موضعا خاصّا من نفُوسهم ،فوق منزلتها الحقيقية، كأنَّها ذات سُلطان من الله، ويجعلُون لها أحكاماً خاصّة بها.
إنَّ هناك لفرقاً كبيراً بين القضاء الإسلامي والقضاء الجاهلي، فالأولُ من أمر الله، ويستمدُّ سُلطانهُ وشرعيَّتهُ من الله. ويجبُ على المُسلم الإنقيادُ لما يقضي به القاضي المُسلم لقطع النّزاعات والخُصُومات. وذلك إذا لم يُخالف نصّاً مُحكماً لا اختلاف في مدلُوله، أو إجماعاً. وهُو مُجتهدٌ يُخطئُ و يُصيب، ومأجُورٌ في الحالتين. ومن حُكم له شيءٌ يعلمُ أنَّهُ لا يستحقُّهُ، لايحلُّ لهُ أخذُهُ بحُجَّة أنَّ القاضيَ حكم لهُ.
وقد ورد في الصحيحين عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، قال: "ألا إنما أنا بشر وإنما يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له، فمن قضيتُ له بحق مسلم ، فإنما هي قطعة من نار فليحملها أو ليذرها"
ولذلك قال كثيرٌ من السَّلف: "لا تخاصم وأنت تعلم أنك ظالم"
والقضاءُ الجاهليُ ليس كالقضاء الإسلامي، ولا يُقاسُ عليه، لأنَّ القضاء الجاهلي اعتداءٌ وطُغيان ولا يقُومُ على إذن وسُلطان من اللهِ. وليس للقاضي الجاهليّ شرعيَّةٌ تُوجبُ تصحيحَ ما يقضي به بين النَّاس لقطع النّزاعات والخُصُومات. فهُو والرجلُ العادي الَّذي لا أتباع لهُ ولا جُنُود سواءٌ في باب التَّحاكم، ولا يكُونُ قضاءُ أحدٍ منهما نافذاً في ميزان الشرع.
فإذا تنازع -مثلا- مُسلمٌ ومُشركٌ في شيء، فذهب المُشركُ إلى رجُلٍ على دينهِ من العامّة، وقال لهُ: بينى وبين فُلان نزاعٌ، وأنا راضٍ بحُكمك، فادعُهُ لتفصل ما بيني وبينهُ. فاتَّصل هذا بالمُسلم ، وقال:"جاءني فُلانٌ متحاكماً إليّ، وأريدُ أن أحكُم بينكُما، فتعال إلى منزلي يوم كذا وكذا".
فإن ذهبَ المُسلمُ إليه, وهُو يُريدُ أن يُخبرهُ بأنَّهُ لا يصلُحُ أن يكُون حكماً في هذه القضيّة، لأنَّ أحد طرفي النّزاع لا يتحاكمُ إلا إلى الشريعة الإسلامية.
فهل يصيرُ المُسلمُ بالذهاب إلى منزله كافراً؟. وهل يكفُرُ بمُجرَّد الكلام؟. وهل دُخُولُ منْزله دخُولٌ في مجلس عباده؟. لا أظُنُّ أنَّ عاقلاً شمَّ رائحة العلم يقُولُ أنَّهُ يكفُرُ بالذهاب أو بالدُخُولِ أو بالكلام.
ثُمَّ إذا قال بعد سماعه لقول المُسلمِ وعلمهِ بأنَّهُ لا يرضى بحُكمه: "ارض أو لا ترضَ فقد حكمتُ في القضية وهي عليك لا لك". فإذا انصرف المُسلمُ من هذا المجلس، بعد أن ردَّ على الطاغُوت الصغير، ولم يَبدُ منهُ ما يدلُّ على الرضى بحُكمه، فهل يحلُّ لنا أن نقُولَ: "لقد كفرَ المُسلمُ بحُضُورهِ في مجلس قضاء جاهلي!! " أو نقُولَ: "كفرَ بوقُوع حُكمِ الطاغُوت عليه!!". لا أظُنُّ أنَّ عاقلاً يقُولُ بذلك.
وذلك أنّ شريعة الله تعتبرُ النِّيَّة في التحاكم، وقد علمنا رفضَهُ للتحاكم إلى الرجل، وعدم قبوله لشرعه، فشهدنا لهُ بصحة موقفه ، واستقامته على الحقِّ. والرجلُ المُريد لأن يحكُم ليس لهُ من الله حجَّة وسُلطان ،فهو يُريدُ أن يتصرَّف فيما ليس له فيه حقٌّ، فصار ظالماً مُفسداً، واللهُ لا يُصلحُ عمل المُفسدين. ولذلك فإنَّ نيَّة المُسلم مُقدَّمةٌ وغالبةٌ على نيَّة القاضي المُدَّعي الكاذب. فليس المجلسُ في حقِّ المُسلمِ مجلسُ حُكمٍ وعبادة، وبالتالي لا يضرُّهُ وجُودُهُ فيه.
وإذاً فالسُؤالُ الهامُّ المطروحُ هُو: ما الَّذي جعل كلامَ الرجُلِ لغواً مع رضى أحد الخصمين بحُكمه؟.
والجوابُ الصحيح هُو: قد صار كلامُ الرجُلِ لغواً, لأنَّهُ ليس قاضياً مُسلماً يستمدُّ السُلطان من دين الله، وليس رجُلاً مُسلماً رضي بحُكمه الطرفان المُتخاصمان, ويستمدُّ سُلطانهُ من رضاهما، ومن إذن الشريعة في الفصل بينهما.
وإذا كان ذلك كذلك، فهل تتغيَّرُ الأحكامُ إذا جاء الرجُلُ بجُنُود،وقد سُمِّي بالقاضي، ودعا المُسلمَ ليفصل بينهُ وبين خصمة في القضية السَّابقة. وهل يكفُرُ المُسلمُ بالذهاب وهو على نيَّته السَّابقة؟. وهل يتحوَّلُ مجلسُ الرجُل إلى مجلس عبادة يكفُرُ كُلُّ من دخله، لأجل جُنُوده؟. وهل قولُ الرجُل: "قد انتهت القضيّة وحكمتُ بينكما بكذا وكذا".. يضرُّ بالمُسلم إذا انصرف وهو لم يقبل منه حُكماً؟.
أقُولُ: إنَّ الطاغُوت الصغير الّذي لا جُنُود لهُ، ويُريدُ أن يحكمَ بين خصمين بغير ما أنزل اللهُ، والطاغُوت الكبير ذا الجنُود والأعوان سواءٌ في باب التحاكم. وأحكامُ الإثنين من اللغو والباطل، لأنَّهما لا يستمدَّان السُّلطان والشرعيَّة من دين الله. فلا ينفسخُ بقولهما نكاحٌ، ولا تنتقلُ ملكية شيء من يد إلى أخرى بقولهما, لكُفرهما واتِّباعهما للهوى ،وما لم ينزل به اللهُ من سُلطان.
ولا يجُوزُ أن نقُولَ في كلا الرجُلين إنَّ نيَّتهُما غالبةٌ على نيَّةِ المُسلمِ، وأنَّهُ إذا قال الكافرُ: "سأحكمُ بينكُما"، وقال المُسلمُ:"لا أرضى بحُكمك" لا يجُوزُ أن نقُولَ:"القولُ قولُ الكافر، والمجلسُ مجلسُ قضاء وعبادة، وقد كفر المُسلمُ بالحُضُور، ولا وزنَ لنيَّته وقولهِ"
من قال بذلك فقد اعتبر ما لم يعتبرهُ الشرعُ، وأنزلَ القاضي الجاهلي الكافر منْزلة أعلى من منْزلته في ميزان الشرع، وقدَّم نيَّةَ الكافر المُتمرِّد على الله على نيَّة المُؤمن الكريم. وقدَّم قولَ مردودِ الشَّهادة على قول مقبُول الشَّهادة، وهذا من أردإ المذاهب وأفسدها.
وقد أوقع أصحابَ هذا القول في ذلك انبهارُهم بالواقع الجاهلي، واعتبارُهم لعُرف البيئة الجاهلية, الَّتي تُقدِّسُ المحكمة وشريعتها الوضعية، وتجعلُ أحكامَ قاضي المحكمة نافذةً طوعاً وكرهاً ،ففقدوا توازنهم، فأصَّلُوا أُصُولا لا يُقرُّهُ عقلٌ ولا نقلٌ.
إنَّ فُقهاءَ الإسلامِ عندما يجعلُون "العُرفَ" مرجعاً لمعرفة بعض الأحكام، فهم إنَّما يقصدون عُرف المُجتمع المُسلم العامل بشريعة الله لا الكافر. بل إنَّ العُرف الجاهليَّ من الأرباب المعنوية المُزيَّفة، الّتي يجبُ الكُفرُ بها.
والطاغُوتُ ذو الجُنُود وغيرُهُ إنسانٌ يجُوزُ الذهابُ إليه لأسباب كثيرة، وإنَّما يكفُرُ من تحاكم إليه، وهو من أظهر رضاهُ بذلك بالقول أو الفعل. وليس كلُّ ما تقُولُه الجاهليةُ إنَّهُ تحاكم، يُلحقُ بالتحاكم الَّذي ذكرهُ القُرآن وكفَّر من فعله. لأنَّ للتَّحاكم الشرعيِّ تعريفٌ جامعٌ مانعٌ لايتقلَّبُ ولا يضطرب.
وخُلاصة القول: أنَّ من قال:"مجلسُ التَّحاكم عند الطاغُوت لهُ أركانٌ ثلاثة:الحاكم والمُدَّعي والمُدَّعى عليه فمن صار أحد هذه الأركان فقد كفر، ومن أُكرهَ على الحُضُورِ فتكلَّم صار كافراً". فهو مُخطِئٌ يظهرُ خطؤهُ من وجُوه:
(الأول) ليس الدخولُ على الطاغُوت كُفراً في ديننا، وليس الكلامُ عنده كُفراً كذلك، وإنَّما الكُفرُ التَّحاكم إليه، وقد بيَّنَّا تعريف التَّحاكم، وأنَّهُ إسنادُ القضاء إليه، والرضى بقطع النّزاع بحُكمه. فمن لم يكُن على ذلك، لا يكُونُ مُتحاكماً بقول الحقِّ وشُهُود المجلس.
ولو كان قولُ الحقِّ وشُهُود المجلس كُفراً مُستقلا، لبيَّنها الكتابُ والسنَّةُ، وما وُكل ذلك إلى آراء الرجال القابلة للخطأ والصواب. والواجبُ على المُؤمن المُخلص أن لا يُجاوز الحدَّ، ولا يخترع ديناً ما أنزل اللهُ به من سُلطان.
(الثَّاني) إذا اضطرَّ المُسلمُ الى إجابة دعوة الطاغُوت ، وحضر مجلسهُ، وهو لا يُريدُ ولا ينوي التَّحاكُم إليه، فليست نيَّةُ الطاغُوت وقولُهُ مُقدَّمةً على نيَّةِ المُسلمِ وقوله. وليست أوامرهُ مُلزمةً على المُسلم، بل هي لغوٌ وباطلٌ، وما يُنفذُهُ بسُلطانه فهو جورٌ يستحقُّ به عقاب الله.
وإذا دعا أحدُ الطواغيت مسلماً، وأخبره بأنّه مُدّعى عليه بحقوق أخذها من أهلها، فتكلّم المسلم وزيّف الدعوى وبيَّن بُطلانها، فإنّه يُعتبر في ميزان الشرع قائلاً بالحقّ، والله لا يعذّب أحداً بقول الحقّ. فالقولُ بأنَّ: "من حضر مجلس الطاغُوت وتكلَّم صار كافراً" لا يجُوز أخذُهُ -كحُكمٍ دينيٍّ- إلاّ بحُجَّة واضحة من الكتاب أو السُّنَّة.
والطاغوتُ بعد سماعه لكلام المُسلم قد يقول: "أنا ملكُ البلاد وقد عرفتُ أنّك بريءٌ فاذهب لوجهك"، كما فعل النَّجاشي. أو يقول: "نحنُ نحبسك ".كما قالُوا ليُوسف عليه السَّلام. وقد يقول الطاغوت إذا كان قاضياً -نائب الملك- ولم يكن الملك: "حكمتْ المحكمةُ بأنّك بريءٌ". أو "حكمتْ المحكمةُ بأنّك ظالمٌ مُجرمٌ".
ولا فرق عند المسلمِ بين قول الطاغوت الملك وبين قولِ الطاغوت القاضي، لأنّ كليهما يقُولُ لغواً، ويتصرّف بسلطانٍ لم يأذن به الله، ويصدر أحكاماً ما أنزل الله بها من سلطان، والأحكام الشفوية الباطلة كالأحكام المدوّنة الباطلة.
فإن قيل: "قد تغيّر الحال في هذا العصر، والعُرف السائد فيه هو أنّ من ذهب إلى المحكمة بعد دعوة القاضي فهو متحاكم".
أقُولُ: "إنّ العُرف الجاهلي لا ينسخ شريعة الله ولا يجعل الحلال حراماً، فإذا كان الذهاب إلى الطاغوت بعد دعوته جائزاً في شريعة الله ما لم يكن في نية الذاهب تحاكمٌ ورضىً بفصل القضاء الصادر منه، فإنّ تغيّر العُرف وآراء الناس لا ينسخ الإباحة إلى التحريم".
(الثالث) ولو كان من ابتُلي باتِّهام الطاغُوت وادُّعي عليه بالباطل يجبُ عليه السُكوت، لسكت يُوسُف عليه السَّلام، ولما قال لمّا ادَّعت عليه امرأةُ العزيز: ﴿هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي﴾ [يوسف: 26]
وقد سجنهُ حُكام البلد ـ الطواغيت ـ مع معرفتهم ببراءته ، وكان للقضيّة ثلاثة أركان: طاغُوت حاكمٌ ومُدَّعي ومُدَّعىً عليه، فلم يكفُر المُدَّعى عليه لأنَّهُ لم يكُن مُتحاكماً ،بل كان يُبرِّئُ نفسهُ من التُّهمة.
وقد كان بين الصَّحابة وبين المُشركين خُصُومةٌ في الدِّين فذهبُوا إلى النَّجاشي وذكروا الصَّحابة بالسُّوءـ وكان يرى أنَّهُ صاحبُ الحقِّ في الفصل بين النَّاس ـ فدعا الصَّحابة، فجاؤا إليه، وقد كانُوا على علمٍ بسبب الدعوة. فلما استمع إلى حجج الفريقين، نصر الصحابة، وأصدر قرارهُ، وقال لهم ما معناهُ: "اذهبُوا حيث شئتم فأنتُم آمنُون".
وقد كان للقضيّة ثلاثة أركان: حاكمٌ غير مُسلمٍ ومُدَّعي ومُدَّعىً عليه ـ وهم الصَّحابة ـ ولم يكفُر الصحابة لأنَّهم لم يكُونوا مُتحاكمين ،بل كان يتكلَّمُ خطيبُهم لإظهار الحقِّ وإبطال الباطل.
وعلى هذا إذا قالُوا للمُسلم: أنت متّهم "بالسرقة" أو "بالقتل" أو "بالظلم" أو "بذنب آخر"، فعليه أن يقول الحقّ، ويقول: أنا بريء من هذه التّهمة، ولستُ بسارقٍ أو قاتلٍ أو ظالمٍ .. إلخ.
كما قال يوسف عليه السلام، وكما قال جعفر رضي الله عنه.
وتبرئة النفس من التّهم الباطلة من الدِّين، وقد فعلها رسل الله أمام المتبوعين بالباطل، أي أمام الطواغيت، ولا حرج على المسلم إذا برّأ ذلك من نفسه. والقول بأنّ هذه التبرئة تصحّ أمام الرئيس والوزير وسيّد القبيلة، ولا تصحّ أمام القاضي الكافر، فهو تفصيل لم يقم عليه دليلٌ ثابت من الكتاب والسنّة، ولا يدلّ عليه كذلك العقل الصريح، لأنّ القاضي الكافر ليس أعظم طغياناً من الذي جعله "قاضياً" وولاّه الوظيفة.
(الرابع) جاء في السِّيرة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم أمر أصحابَه بالخروج إلى أرض الحبشة وقال: "إنَّ بِهَا مَلِكًا لا يُظْلَمُ النَّاسُ بِبلاَدِه ، فَتَحَرَّزُوا عِنْدَه حَتَّى يَأتيكُم اللَّهُ بِفَرَجٍ مِنْه"
فظاهرٌ من الخبر جواز الاستفادة من عدل المُلُوك الَّذين يكرهُون الظُّلمَ. وهو ردٌّ على من يظنُّ أنَّ من جيء إلى مجلس حُكمه فتكلَّم بالحقِّ يكفُر.
وإذا كان الملكُ الكافرُ لا يُستعانُ به في استرداد الحقِّ، وكان المُدَّعى عليه إذا دعاهُ الملكُ لا يجُوزُ لهُ أن يقُول الحقَّ أمامه، لكان الملكُ العادل كالظالم ولم يكُن للذّهاب إلى النَّجاشي معنى.

(الخُلاصة)

الخُلاصة:
1) الطاغوت: مشتقٌّ من الطغيان.ويُطلقُ على العبد المتجاوز لحدّهِ بإدِّعاءِ حقٍّ من حُقوقِ الألوهية.
2) من الطواغيت: الشيطانُ والكهنة والسحرة والسدنة والزعماء المتبُوعين والحُكام بغير ما أنزل الله.
3) الأصنامُ والأوثانُ طواغيت مع كونها من الجمادات، بمعنى أنَّ النَّاس اتّخذوها طواغيت تُعبدُ من دون الله.
4) والحاكم أو الملك الحريص على تحقيق العدل ونفي الظلم، ولاينقادُ لأمر الله، لم يخرج من الطواغيت الحاكمة.
5) شريعة الطاغُوت المُدوَّنة، كأوامره الشفوية، وكُلٌّ من الهوى.
6) التحاكم:هو إسنادُ القضاء إلى حاكم، والرضى بفصلِ النّزاع القائم بين النَّاس بحُكمه.
7) التحاكم إلى الطاغُوت:هو إسنادُ القضاء إلى الطاغُوت، والرضى بفصلِ النّزاع بحُكمه.
8) التحاكُم إلى الطاغُوت كُفرٌ يزولُ به الإيمان والتَّوحيد.
9) يكفرُ المرء المُسلم بمجرَّد إرادة التَّحاكم إلى الطاغُوت، ويصيرُ إيمانُهُ زعماً لا حقيقة له.
10) ولا يُشترطُ للمُتحاكم اعتقادُ أنَّ شريعةَ الطاغُوت أفضلُ من شريعة الله أو أنَّها واجبة الاتِّباع، بل يصيرُ مُتحاكماً بفعل التَّحاكُم.
11) من قال أو فعل ما هو كفر كفَرَ بذلك وإن لم يقصد أن يكون كافراً.
12) المُتحاكمُ إلى الطاغُوت يرتدُّ ردَّة صريحة أو ردَّة نفاق.
13) القضاء الإسلامي من أمر الله، ويستمدُّ سُلطانهُ وشرعيَّتهُ من الله.
14) ويجبُ على المُسلم الإنقيادُ لما يقضي به القاضي المُسلم لقطع النّزاعات والخُصُومات .
15) القاضي المُسلمُ مُجتهدٌ يُخطئُ و يُصيب، ومأجُورٌ في الحالتين.
16) القضاء الجاهلي اعتداءٌ وطُغيان ولا يقُومُ على إذن وسُلطان من اللهِ.
17) ليس للقاضي الجاهليّ شرعيَّةٌ تُوجبُ تصحيحَ ما يقضي به بين النَّاس لقطع النّزاعات.
18) القاضي الجاهلي ورئيسه والرجلُ العادي الَّذي لا أتباع لهُ ولا جُنُود سواءٌ في باب التَّحاكم، ولا يكُونُ قضاءُ أحدٍ منهم نافذاً في ميزان الشرع.
19) الشريعة تعتبرُ النِّيَّة في التحاكم، ونيَّةُ المُسلم مُقدَّمةٌ وغالبةٌ على نيَّة القاضي المُدَّعي الكاذب.ولا تلزمُهُ أوامرُهُ.
20) المحكمة الجاهلية ليست لها مزيَّة وأحكام زائدة على مجالس الطواغيت في المنازل و الحدائق والطرقات.
21) ليس مجلسُ الطاغُوت مجلسُ حُكمٍ وعبادة، إلَّا للمُتحاكمين إليه.
22) للتحاكم الشرعيّ تعريفٌ جامعٌ مانعٌ لايتقلَّبُ ولا يضطرب. وليس كلُّ ما تقُولُه الجاهليةُ إنَّهُ تحاكم، يُلحقُ به.
23) عُرْفُ المُجتمع المُسلم العامل بشريعة الله مُعتبرٌ، وعُرفُ المُجتمع الجاهليِّ من الأرباب المعنوية المُزيَّفة، الّتي يجبُ الكُفرُ بها.
24) وتبرئة النفس من التّهم الباطلة من الدِّين، وقد فعلها رسل الله.
25) دلَّت الأدلَّةُ على جواز الإستعانة بالمُلُوك وذوي الوجاهة من المتبُوعين ـ مع طُغيانهم ـ في استرداد الحقُوق وتبرئة النَّفس من التُّهم .
26) استردادُ الحُقُوق لا تنحصرُ في الأموال، بل تشملُ الأعراض، والأمن ،والإقامة ،والعمل في الأسواق وغير ذلك.
27) الذهابُ وإجابة دعوة الطاغُوت ليس كفراً في ذاته، إذا لم يكن في النيَّة تحاكمٌ أو غيره من الكُفر الأكبر.
28) التحاكمُ إلي الطاغُوت المُحرَّم يشملُ الخصومات الدينية والدُنيوية.
29) لا تُستردُّ الحقُوق بالتَّحاكم إلى الطاغُوت، لأنَّ زوالَ الدُنيا أهونُ على المُؤمن من الكُفر.
30) مجالسُ الكُفر قسمان: مجلسٌ لا يحلُّ لمُسلم أن يجلس فيه، ومجلسٌ يحلُّ لهُ الجُلوس.
31) لا يحلُّ لمُسلم أن يجلس مجلس كُفرٍ واستهزاء، من غير إكراه أو نسيان ، ومن غير ردٍّ على الكافرين، ومن غير مصلحة شرعيّة تُبيحُ لهُ الجُلوس.
32) ويحلُّ لهُ الجلُوس إذا كان يُراعي مصالح شرعيّة، كالمُناظرات الدينيَّة والمُفاوضات السياسيَّة والتعامُل المُباح.
33) المحكُوم بالسجن الطويل مُكرهٌ، ويحلُّ لهُ التكلُّمُ بالكُفر.
34) إجراء كلمة الشرك على اللسان رخصة ، والامتناع هو العزيمة، فمن ترخَّص بالرخصة وسعهُ، ومن تمسك بالعزيمة كان أفضل له.
35) الاستئناف الَّذي هُو طلبُ إلغاء الحُكم السَّابق، وإعادة جلسة المحكمة، أو الإحالة إلى محكمة أُخرى لتحكم في القضية من جديد، من التحاكم إلى الطاغُوت.
36) لا يحلُّ التَّحاكُم إلى الطاغُوت فيما يُعلمُ أنَّهُ يحكُمُ فيه بالحقِّ، لأنَّنا مأمُورون باجتنابه، ولأنَّهُ ليس من أهل الحُكم والعدل.

(اولاً) تعريف الطاغوت

(أولا) تعريف الطاغوت:
الطاغوت: مشتقٌّ من الطغيان.ويُطلقُ على العبد المتجاوز لحدّهِ بإدِّعاءِ حقٍّ من حُقوقِ الألوهية.
قال عمر رضي الله عنه: الطاغوت الشيطان. وقال جابر عن الطواغيت: كهان ينْزل عليها الشيطان.وقال أبوالعالية: الطاغوت الساحر.
وقال الإمام الطبري بعد ذكره لهذه الأقوال: "والصوابُ من القولِ عندي في الطاغوت أنّهُ كُلُّ ذي طغيانٍ على الله فعُبدَ من دونهِ إمّا بِقهرٍ منه لمن عبَده وإمَّا بطاعةٍ ممن عبدهُ له، إنساناً كان ذلك المعبود أو شيطاناً أو وثناً أو صنماً أو كان ما كان من شئٍ" [تفسير الطبري: 3/19].
وعندما يُقالُ للصنم أو الوثن: هو "طاغوت" ليس معنى ذلك أنّهُ دعا إلى عبادته أو قهَر النّاسَ لعبادتهِ لأنَّهُ من الجمادات، وإنَّما المعنى أنَّ النَّاس اتّخذوهُ معبوداً من دون الله أي: اتّخذوهُ طاغوتاً.

(ثالثاً) الطواغيت البشريّة الحاكمة

(ثالثا) الطواغيت البشرية الحاكمة:
إنّ من الأمور الفطرية المعلومة لدى جميع الأمم على اختلاف الأديان والعقائد حُسن العدلِ والإنصاف وقبحُ الجور والظلم. وكل إنسانٍ إذا قصده من يريد إزهاق نفسه يعلم أنّه ظالم يعتدي عليه بدون حقٍّ، ويعلم كذلك: أنّه إن دافع عن نفسه وقتل الظالم قبل أن يقتله أنّه مصيبٌ وعلى صراطٍ مستقيم . ويعلم كذلك: كما أنّه لا يرضى لنفسه أن تُزهق ظلماً فكذلك كلّ إنسانٍ لا يريد لنفسه ذلك، وأنَّ من أراد قتل إنسانٍ بريءٍ بدون حقّ ظالمٌ معتدٍ يستحقّ العقوبة.
ويعلم الإنسان كذلك -على أيّ دين كان- أنّ من قصده لأخذ ماله بالقوّة ظالِمٌ له معتدٍ، وأنّ الدفاع عن المال لا بُدّ منه إذا كان قادراً على ذلك. ويعلم كذلك: كما أنّه لا يرضى لنفسه السلبَ فإنّ كلّ إنسان لا يرضى لنفسه ذلك، وأنّ من اعتاد سلب الناس وأخذ أموالهم بالقوّة ظالم يستحقّ العقوبة.
ويعلم الإنسان كذلك -على أيّ دين كان- أن من قصد أخته أو ابنته ليفجر بها أنّه ظالم معتدٍ، وأنّ الدفاع عن النسوة الأقارب لا بُدّ منه إذا كان قادراً على الدفاع. ويعلم كذلك: أنّ من اعتاد الغصب والفجور في المجتمع ظالم يستحقّ العقوبة.
فمحبّة العدل وإعطاء كل ذي حقٍّ حقّه أمرٌ فطريٌّ يُدركه الإنسان من حال نفسه، وكذلك بغض الظلم والجور قبل الرسالات السماوية وبعدها. فالأمم الجاهلية لم تكن جاهلة بأنّ العدل حسن وأنّ حفظ النفوس والأموال والأنساب والأعراض من حقوق الإنسان التي يجب الاعتناء بِها، وكذلك لم تكن جاهلة بأنّ الظلم قبيح وأنّ الاعتداء على النفوس والأموال والأنساب والأعراض جريمةٌ تستحقّ المقاومة.
ويعلم الأفراد والجماعات -على أيّ دين كانوا- من الحياة الواقعيّة أنّه إذا انتشر الظلم والقتل والغصب والسلب فإنّ الحياة تؤذّن ببوارٍ، وأنّ الأمن والاستقرار ينتهي .. ومن أجل هذا العلم ظهر الاعتناء بالقيم والشرائع التي على أساسها يُعرف الظالم المجرم ويُعرف ما يستحقّه من عقوبة في حياة الناس.
ومن كان مؤمناً برسالة الله فإن الرسالة تكفيه عن وضع القيم والشرائع للحياة وما عليه إلاّ أن يتّبع تنْزيل العليم الخبير. ومن كان لا يؤمن بالرسالات أو يؤمن بِها ولكن لم تبلغه إلاّ محرّفةً ناقصةً لا تفي بحاجات الإنسان يضطرّ إلى وضع القيم والشرائع وهو يعتمد على عقول الرجال وتجاربهم.فكما أنّ كلّ إنسان يريد "الطعام" و"الشراب" و"المسكن" و"النكاح" وهم مع ذلك على قسمين: قسمٌ يطيع الله تعالى في طريقة نيل هذه المطالب. وقسم يكفُر بالله ويعصيه في طريقة نيل مطالبه. فكذلك كلّ البشر يريدون القيم والشرائع التي تحقّق العدلَ وتؤدي الحقوق إلى أهلها، ولكنّهم ينقسمون إلى قسمين: قسم يطيع الله في القيم والشرائع وقسم يتمرّد على الله ويريد أن يضع القيم والشرائع من عند نفسه متجاهلاً أو جاهلاً بأنّه بفعله ذلك ينصبُ نفسهُ إلهاً، ويطلب حقوق الله التي لا يجوز أن يطلبها العبد الفاني الفقير إلى ربِّه.
فإذا عرفتَ أن كلّ من أنكر اتّباع شريعة الله كافرٌ بالله، وكلّ مجتمع لا ينقاد للقيم الإسلامية وشرائعه مجتمعٌ جاهليٌّ، فاعلم أنّ المجتمعات الجاهلية على درجاتٍ من ناحية التزام واتّباع قيمها وشرائعها الجاهلية:

(ثانياً) أشكال الطّغيان الّتي تمارسها الطواغيت

(ثانيا) أشكالُ الطغيان التي تُمَارِسُهَاْ الطواغيت:
(1) طُغيان الشيطان:
الشيطانُ طاغُوت لأنَّهُ يدعوا إلى الضلال فَيُطاعُ في الكفرِ وفي المعاصي، فهو متمرِّدٌ علي اللهِ معبودٌ من دون الله، وإن كان غالبُ عُبَّادِهِ لا يشعرون ولا يعترفون بأنّهم عُبَّاد الشيطان. ولكنّهم في الحقيقة ما هم إلاّ عُبَّاده، وسوف يتبرَّاُ منهم يوم القيامة قائلاً: "إنِّي كفرتُ بما أشركتُمونِ من قبل" أى بما عبدتموني مع الله.
ويقول الله تعالى لعُبَّادِ الشيطان يومَ القيامةِ: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ [يـس:60ـ 61].
وحقيقة هذا العدوّ وكيفية إضلالِه من علم الغيب الذى أخبرنا الله عنه، فهو عدوٌّ يري الإنسانَ ولا يَراه الإنسانُ، وينتظر غفلتهُم ليُوسوس في صدورهم، وليس له سُلطان عليهم . وهو لا ينفَعُ من أطاعَهُ ولا يضرُّ من عصاهُ، ولذلك فالتبعة في الحقيقةِ على المُستجيب لدعوتِهِ لأنَّهُ أطاع باختياره وإرادتهِ وغَفل عن توجيهات الله وتذكيرهِ ومواعظهِ، ولذلك فإنّ من أطاعَ الشيطان في الكفر والشِرك فهو كافرٌ مشرِكٌ ومن أطاعه في الفسقِ الذى دون الكفرِ فهو فاسقٌ عاصٍ.

(خامساً) تصحيحات

(خامساً) تصحيحات:
هُناك أخطاءٌ علمية دخلت في عقائد بعض المُوحِّدين المُتحمِّسين في باب التَّحاكم، فأردتُ التنبيه عليها, وتبيينَ ما يُخالفُ الحقَّ من الأفكار الَّتي قد زلَّت بها أقدامٌ،وحارت فيها عُقُولٌ، ليتوقَّاها ويتجنَّبَها طُلَّاب الحقِّ، وأهمُّها ما يأتي:

(رابعاً) حكم التّحاكم الى الطّاغوت

(رابعاً) حُكمُ التَّحاكم إلى الطاغُوت:
1) التحاكم: هو إسنادُ القضاء إلى حاكم، والرضى بفصلِ النزاع القائم بين النَّاس بحُكمه.
والتحاكم إلى الطاغُوت:هو إسنادُ القضاء إلى الطاغُوت، والرضى بفصلِ النّزاع بحُكمه(1).
------------
(1) اعترض البعض تعريف الكاتب للتحاكم واتّهم بأنه يشترط الإستحلال القلبيّ للحكم على فاعل الكفر وردًا على ذلك قال:
(أولا) صاحبُ الاعتراض لا يدري أنَّ الأفعال تدلُّ على الرضى، وأنَّ من شرب الخمر مُختارا فقد رضي بالشرب، وقس على ذلك. ولذا فإنَّ من تحاكم إلى الطاغُوت فقد رضي بالتحاكم. فعلى ذلك فمن عرَّف التحاكم إلى الطاغُوت بأنّهُ: "إسناد فصل القضاء إليه"، ومن عرَّفهُ بأنَّهُ: "الرضى بفصلِ النّزاع بحُكمه" فلا اختلاف بينهما لأنَّ الرضى يكُونُ قولا كما يكُونُ فعلاً.
وقد قال اللهُ تعالى عن المُتخلِّفين عن الجهاد: "رضُوا بأن يكُونُوا مع الخوالف" أي: مع النساء. ومعلُومٌ أنَّهم لم يكُونُوا يقُولُون بأفواههم: "نُريدُ أن نكُون مع النساء" ولكنّ أفعالهم دلَّت على ذلك. فمن قال عن المُتحاكم إلى الطاغُوت إنَّهُ رضي بالتحاكم فقد صدق.
وعلماءُ الإسلام يُقرِّرون أنَّ الأفعال دالَّةٌ على الرضى لعلمهم بالقُرآن:
قال ابنُ الجوزي في "أخبار الحمقى": "ومن أعجب التغفيل‏:‏ أن الرافضة يعلمون إقرار علي على بيعة أبي بكر وعمر واستيلاده الحنفية من سبي أبي بكر وتزويجه أم كلثوم ابنته من عمر وكل ذلك دليل على رضاه ببيعتهما ثم فيهم من يكفرهما وفيهم من يسبهما"
وقال ابنُ القيم في مدارج السالكين: (فأما الندم فإنه لا تتحقق التوبة إلا به إذ من لم يندم على القبيح فذلك دليل على رضاه به وإصراره عليه وفي المسند: "الندمُ توبةٌ").
وقال ابنُ قُدامة في "المغني": (لأن أدلة الرضى تقوم مقام النطق به ولذلك قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لبريرة: "إن وطئك زوجك فلا خيار لك" جعل تمكينها دليلاً على إسقاط حقها والمطالبة بالمهر والنفقة، والتمكين من الوطء دليل على الرضى، لأن ذلك من خصائص العقد الصحيح فوجوده من المرأة دليل رضاها به).
وقال السرخسي في المبسوط: ("وإذا قبَّل جارية بشهوة ونظر إلى فرجها بشهوة فهو رضا" لأن هذا الفعل لا يحل إلا في المِلك، فإقدامه عليه دليل الرضى، فتقرر ملكه فيها بمنْزلة الغشيان).
وقال: (وإذا اغتصب العبد من رجل متاعاً فباعه ومولاه ينظر إليه فلم ينهه عنه فهذا إذن له في التجارة لوجود دليل الرضى منه بتصرفه حين سكت عن النهي).
(ثالثا) لا يُفطنُ إلى الفرق الَّذي بين (الرضى بالفعل) وبين (الإستحلال القلبي )
فإنّ من النَّاس مَن يرضى بفعلُ الكبيرة وهو يعتقدُ تحريمها. فيصحُّ القولُ بأنَّهُ قد رضي بفعل الكبيرة، لكونه فعلها مُختاراً من غير إكراه.

2) والتحاكُم إلى الطاغُوت كُفرٌ يزولُ به الإيمان والتَّوحيد، لأنَّ الحُكم والأمر لله، ومن أفرد ذلك لله وانقاد لأوامره وأحكامه فهُو المُسلمُ المُوحِّد، الَّذي على دين الله القيّم، ومن قدَّم حكم غير الله على حُكم الله فقد أشرك في عبادة الله.
قال الله تعالى: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلا للهِ أَمَرَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف:40)
وقال: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ للهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ﴾ (الأنعام:57)
وقال: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ (المائدة:44)
وقال: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ (النساء:65).
3) ويكفرُ المرء المُسلم بمجرَّد إرادة التَّحاكم إلى الطاغُوت، ويصيرُ إيمانُهُ زعماً لا حقيقة له.
قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيدًا﴾ (النساء:60)
ومن أراد وتحاكم بالفعل أولى بالذَّمِّ والتكفير ممن أراد ولم يفعل.
4) ولا يُشترطُ للمُتحاكم اعتقادُ أنَّ شريعةَ الطاغُوت أفضلُ من شريعة الله أو أنَّها واجبة الاتِّباع، بل يصيرُ مُتحاكماً بفعل التَّحاكُم، ويكفُر بمجرَّد الإرادة، ولو لم يقصُد أن يكفُرَ.
قال الإمام ابن تيمية في الصَّارم المسلُول: "وبالجملة فمن قال أو فعل ما هو كفر كفَرَ بذلك وإن لم يقصد أن يكون كافراً؛ إذ لا يقصد الكفر أحدٌ إلا ما شاء الله" (اهـ).
وقال الإمام ابن كثير في تفسير قوله تعالى:﴿فَإِن تَنَـٰزَعْتُمْ فِى شَىْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾: قال:"أي ردوا الخصومات والجهالات إلى كتاب الله وسنة رسوله فتحاكموا إليهما فيما شجر بينكم "إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ" فدل على أن من لم يتحاكم في محل النزاع إلى الكتاب والسنة ولا يرجع إليهما في ذلك فليس مؤمناً بالله ولا باليوم الآخر"
5) ومن كان في الظاهر مُسلماً، فظهرت إرادتُهُ للتحاكم إلى الطاغُوت، صار مُنافقًا إذا كان يُبدي الرجُوع، ويعتذرُ باعتذارات كحُسن القصد. أمَّا المُصرُّ المُتمادي فهو يرتدُّ بذلك:
قال تعالى: ﴿فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا. أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا﴾ (النساء:62ـ63).

1) طغيان الشّيطان

(1) طُغيان الشيطان:
الشيطانُ طاغُوت لأنَّهُ يدعوا إلى الضلال فَيُطاعُ في الكفرِ وفي المعاصي، فهو متمرِّدٌ علي اللهِ معبودٌ من دون الله، وإن كان غالبُ عُبَّادِهِ لا يشعرون ولا يعترفون بأنّهم عُبَّاد الشيطان. ولكنّهم في الحقيقة ما هم إلاّ عُبَّاده، وسوف يتبرَّاُ منهم يوم القيامة قائلاً: "إنِّي كفرتُ بما أشركتُمونِ من قبل" أى بما عبدتموني مع الله.
ويقول الله تعالى لعُبَّادِ الشيطان يومَ القيامةِ: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ [يـس:60ـ 61].
وحقيقة هذا العدوّ وكيفية إضلالِه من علم الغيب الذى أخبرنا الله عنه، فهو عدوٌّ يري الإنسانَ ولا يَراه الإنسانُ، وينتظر غفلتهُم ليُوسوس في صدورهم، وليس له سُلطان عليهم . وهو لا ينفَعُ من أطاعَهُ ولا يضرُّ من عصاهُ، ولذلك فالتبعة في الحقيقةِ على المُستجيب لدعوتِهِ لأنَّهُ أطاع باختياره وإرادتهِ وغَفل عن توجيهات الله وتذكيرهِ ومواعظهِ، ولذلك فإنّ من أطاعَ الشيطان في الكفر والشِرك فهو كافرٌ مشرِكٌ ومن أطاعه في الفسقِ الذى دون الكفرِ فهو فاسقٌ عاصٍ.

2) طغيان الكاهن

(2) طغيان الكاهن:
الكاهنُ "طاغُوتٌ" متجاوزٌ لحدّ العبد لأنَّه:
(أولاً) يدّعى علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، فيكون متبوعاً بالباطل، يسألُه النّاسُ عن أمور الغيب، ومن سأله وصدّقهُ بما يقولُ [فقد كفر بما أنزل على محمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم] كما جاء في الحديث.
(ثانياً) صار متبوعاً بالباطل ويأتيه النَّاس للحكم بينهم وفصل النـزاع عنده. وكان العربُ قبل الإسلام يتحاكمون إلى الكُهان.
وقد سُئل جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن الطواغيت التي يتحاكمون إليها فقال: "كان في جُهيْنة واحد وفي أسلم واحد وفي كلِّ حيٍّ واحد وهي كُهان ينـزل عليها الشيطان". (الطبري)
ومن قولِ الصحابيّ الذى رواهُ الطبريُّ فى تفسيره، يظهرُ لك أنَّ العربَ كانت تتحاكم إلي الكُهان، وما ذلك إلَّا لأنَّهم يظنُّون بهم علماً وإطِّلاعاً للغيب.
ومما يُذكرُ في كُتُبِ التواريخ والسير اتّفاقُ زُعماءُ قريش على التحاكم إلى كاهنةِ بنى سعد لما طلبوا من عبدالمطلب أن يُشركهم في بئر زمزم فأبى هو ذلك.
ويُذكر كذلك قصة ذهابِ "عتبة بن ربيعة" بابنتة "هند بنت عتبة" لما رموها بالفاحشة وشكُّوا في أمرها ومعها نسوة كثيرات فقال الكاهنُ عنها: "إنَّها بريئة وستلدُ ملكاً".

3) طغيان السّاحر

(3) طُغيان السّاحِر:
والسّاحرُ طاغوت مُتجاوز لحدّ العبد وذلك:
(أولاً) لإدّعائه القُدرة الخارقة للعادة بالسحر.
(ثانياً) لأنّه صار متبُوعاً بالباطل تخافهُ العامّةُ وتتحاكمُ إليه لأنّهُ -كما تظنُّه العامَّةُ- يعلمُ مالا يعلمون ويقدرُ على مالا يقدرون هم عليه. والسحر كان يُعتبرُ عند أهلِ الجاهلية أو عند بعضهم نوعاً من أنواع العِلمِ.
قال الإمامُ الطبريّ في تفسير قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ﴾ "قيل: إنَّ الساحِرَ كانَ عندهم معناه: "العالم", ولم يكن السّحرُ عندهم ذمّاً، وإنَّما دعوه بهذا الإسم لأنَّ معناهُ عندهم كان:"ياأيُّهَا العالم"(الطبري:13/80).

4)طغيان السّادن

(4) طُغيان السَّادِن:
والسَّادِنُ طاغوتٌ مُتجاوزٌ لحدّ العبد لأمور:.
(الأول) يدعوا النَّاس إلى عبادة الآلـهة التي يقومُ بسدانتها، فهو من هذه النّاحية "شيطان"، والشيطان طاغوت.
(الثاني) يدّعى أنَّهُ يعلَمُ سرَّ الآلـهة وما تُريدُه، وطريقةَ إرضائها.
(الثالث) يقومُ بالتحليلِ والتحريم الذي ما أنزل اللهُ به مِن سُلطان. كما في قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ﴾ [الأنعام].
والمراد بالشركاء السدنَةُ الذين كانوا يمارسون التحليل والتحريم في الأنعام والثمار.
(الرابع) ولهذه العِلاقَةِ بالآلـهةِ التي يدّعيها كانت العامَّةُ تظنُّ به العلم وتتحاكمُ إليه، ويستقسمون بالأزلام عندهُ طلباً لإصابة الخير والإبتعادُ عن الشرِّ.

5) سادات القبائل وحكماؤها

(5) ساداتُ القبائل وحُكَماؤُها:
وسيِّدُ القبيلةِ وحكيمُها إذا لم يكن مُسلِماً يرجِعُ إلى الدّين الحقِّ في كُلِّ الشؤون فإنَّهُ يصيرُ مُتجاوزاً لحدِّ العبد، وطاغوتاً من الطواغيت لأنَّهُ:
(أولاً) يكون متبُوعاً بالباطل يأمُرُ وينهى ويَصْدُرُ القرارات المُخالفة للحقِّ فيطاع.
(ثانياً) يرجع إليه النَّاس في الخصومات ويتَحاكَمُوْنَ إليه فيفصلُ في القضايَاْ بغير ما أنزل اللهُ.
وغالباً ما تكونُ القبائلُ البدوية مُنقادة لأحكامٍ من وضع البيئة إذ تعتبرُ الحِكَمَ والأمثال الموروثة أو المأخوذة من أفواهِ الشعراء والحُكماء كحقائق علمية تعتمدُ عليها في الخصومات والمنازعات.
كما يُذكرُ عن عمر رضي الله عنه أنه قال:"كانَ الشعر علمَ قومٍ لم يكن عندهم علمٌ أصحَّ منهُ"
وكان عربُ الجاهليةِ يتحاكمون إلى الرجال الذين يُظنُّ فيهم الحكمة والتجربة والإنصاف، وكان الخُصوم يتفقُون على الإنقيادِ بحُكمهِ قبل مجيئهم إليه، فالنِفارُ الذي هو التحاكم إلى رَجُلٍ مُجرَّبٍ عندما يتنازعُون في الشرف والسيادة أو في غير ذلك كانَ من مقاطِعِ الحقِّ عندهم حتى قال قائلهم وهو زُهير: "فإنَّ الحقَّ مقطعُه ثلاثٌ يمينٌ-أو نفارٌ- أو جلاء-".
وتوجدُ في الأخبار والسير حوادثٌ كثيرة من هذا النوع، منها:
1- الحادثة المشهورة: لما وقعت الخصومة بين قُصيّ بن كلاب وخزاعة ومعها بنوبكر في من يتولَّى أمور الكعبـة والحرم تَحاكمُوا بعد قتال إلى "يعمر بن عوف " فقضى لِقصيّ وأنَّ ما أصابهُ من دم موضوعٌ شدخُهُ تحت قدميه، وما أصابت خزاعة وبنو بكر ففيه الدية فسُمّي من يومئذٍ "يعمر الشدَّاخ". –[الروض الأنف:1/148].
2- وذكر إبن إسحاق أنَّ جرير بن عبدالله البجليّ نافر قبل إسلامه الفُرافصة الكلبيّ إلى "الأقرع بن حابس" التميميّ. قال السهيليّ: "ينافر: أي يحاكم" قال قاسم بن ثابت: لفظ المُنافرة مأخوذة من النَّفر، وكانوا إذا تنازَع الرجلان وادّعى كلّ واحد منهم أنَّه أعزُّ نفراً من صاحبه تحاكموا إلى العلّامة فمن فضل منهما قيل: نفره عليه أي فضّل نفره علي نفر الآخر: فمن هذا أخذت المنافرة.
قال زهير: فإنَّ الحقَّ مقطعه ثلاث يمين أو نِفارٌ أو جلاء.
3- ويُذكر كذلك أنّ أمية بن عبد شمس نافر هاشم بن عبد مناف إلى رجلٍ من العرب ففضَّل هاشماً..
4- وأنَّ عامر بن الطفيل نافر علقمة بن علاثة إلى رجلٍ من العرب ففضّل عامراً. إلى غير ذلك من الأخبار.
5- وفي زمن النبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم أراد رجلٌ منافق في خصومة بينه وبين يهوديّ التحاكم إلى "كعب بن الأشرف" وكان سيداً من سادات يهود. فأنزالله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ﴾ [النساء:60].

6) طغيان الملوك ورساء الدّول

(6) طُغيان الملوك ورؤساء الدول:
والملوك والرؤساء الذين لا ينقادون لأمرِ الله متجاوزون لحدّ العبد فصاروا بذلك من الطواغيت فهم:.
(أولاً) يدّعون أنّ لهم السيادة والعلو ويجب أن يُذعن النّاس لسلطانهم فيدّعون حقّ الله تعالى في الربوبية، في القهر والسلطان.
(ثانياً) يدّعون أنهم مشرّعون وأنّ شريعتهم تهدى إلى الحقّ والخير فيدّعون حقّ الله تعالى من جانب آخر من جوانب ربوبيته، وهو التشريع والتحليل والتحريم.
(ثالثاً) يدّعون أنهم يُجازون المطيع ويعاقبون العاصى الخارج عن شريعتهم، فنصبوا أنفسهم أربابا من دون اللّه تعبد بالخوف و الرّجاء والطاعة.
(رابعاً) يوجبون التحاكم إليهم أو إلى نوابهم ومحاكمهم التي تعمل بتشريعاتهم الوضعية وتحكم بغير ما أنزل الله في الدماء والفروج والأموال، وهذا كذلك اعتداءٌ على حقوق الله يصيّرهم طواغيت متمرّدة على الله.
فممّا تقدَّم تعلم أنَّ من فسر الطاغوت بالكاهن ليس مخالفاً لمن فسره بالسَّاحر أو الشيطان أو كعب بن الأشرف. لأن الجميع طواغيت، وكلّ منهم قد ذكر صورة من صور الطغيان ولم يرد الحصر كما بيّن ذلك قولُ الطبريّ المتقدّم.
وقال الإمام مالك: "الطاغوت هو كل ما يُعبدُ من دون الله عز وجل " [ابن كثير].
وقال الإمام إبن تيمية: "ولهذا سُمّي من تحوكم إليهم من حاكم بغير كتاب الله طاغوتاً" [الفتاوى: 28/201].
وقال الإمام إبن القيّم: "فطاغوت كلّ قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله" [أعلام الموقعين:1/40].
وقال الإمام محمّد بن عبد الوهاب: "الطواغيت كثيرة ورؤسهم خمسة:
(الأول) الشيطان الداعي إلى عبادة غير الله تعالى والدليل قوله تعالى: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ ... مُبِينٌ﴾ [يـس].
(الثاني) الحاكم الجائر المغيّر لأحكام الله تعالى والدليل قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ .... أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ﴾ [النساء:60].
(الثالث) الذي يحكم بغير ما أنزل الله.
قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ [المـائدة:44].
ومراد الشيخ هو: "كلّ من لا يحكم بين النّاس بما أنزل الله وإن لم يكن حاكماً عامّاً أو ملكاً".
(الرابع) الذي يدّعى علم الغيب من دون الله تعالى. قال الله تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا﴾ [الجنّ:26].
(الخامس) الذي يُعبدُ من دونِ الله وهو راضٍ بالعبادة. والدليل قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ..... نَجْزِي الظَّالِمِينَ ﴾ [الأنبياء:29]. [مجموعة التوحيد: الرسالة الأولى:1/15].
وقال الإمام عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين: "فتحصل من مجموع كلامهم –رحمهم الله- أنَّ إسم الطاغوت يشمل كل معبودٍ من دونِ الله وكلّ رأسٍ في الضلالِ يدعوا إلي الباطل ويُحسِّنُه، ويشمل أيضاً كلّ من نصبَهُ النّاسُ للحكم بينهم بأحكام الجاهليةِ المضادَّة لحكمِ الله ورسوله، ويشمِلُ أيضاً الكاهن والساحر وسدنة الأوثان إلى عبادة المقبورين وغيرهم" [مجموعة التوحيد:1/173].
وقال سيّد قطب: "وليس الطريق أن يتحرَّر النَّاسُ في هذه الأرض من طاغوت رومانيّ أو فارِسيّ إلى طاغوت عربيّ، فالطاغوت كلّه طاغوت. إنَّ النّاس عبيدٌ لله وحدهُ ولا يكونون عبيداً لله وحده إلا أن ترتفع رايةُ أن لا إله إلا الله – لا إله إلا الله كما يُدركها العربيُّ العارف بمدلولات لغته،: لا حاكمية إلاّ لله ولا شريعة إلاّ من الله ولا سُلطان لأحدٍ على أحدٍ، لأنَّ السُّلطان كلّه لله". [معالم في الطريق:28].

الدّرجة الأولى

الدرجة الأولى:
وهي أحطّ الدرجات، ويمثلها المجتمعات التي لم تتوحّد فيها سلطة مركزية حيث ينقسم المجتمع إلى فئات متعادلة من ناحية القوّة، ولا تقدر فئةٌ منها على أخذ أيدي الظلمة من الفئات الأخرى، وتنشب الحروب بين الفئات لأحقر الأسباب. وهذه البيئات تكون في الغالب عُرضة للغزو الأجنبي الذي يستعبدها.
وأهل الجاهلية يعدُّون هذه الدرجة همجيةً وفوضى لا تليق بالإنسان، وهم عندما يقولون ذلك لم ينظروا بمنظار إسلاميّ، ولكن نظروا نتائجها المضرّة للحياة، لأنّها تئول بالأمّة إلى الضعف والذلِّ بوقوعها تحت أقدام الأمم القويّة التي لا ترحمها.

الدرجة الثّالثة

الدرجة الثالثة:
ويمثلها كل مجتمع يسير وفق قيم وشرائع يقتنع بضرورة التزامها، سواءً كان سبب الالتزام ظنّه أنّها شريعة إلهية يخشى إذا أخلّ بها عقوبة الله، أو كان لمجرّد اقتناعه بضرورة التشريع للحياة، ولظنّه أنّها أفضل للإنسان من غيرها.
والحاكم أو الملك الذي يحرص على تحقيق العدل ونفي الظلم، ولكنّه لا يتّخذ شريعة الله هادية إلى الحقّ في كلّ الشئون والقضايا. لم يخرج من طغيان الطواغيت لأنّه يأمر وينهى ويعاقب ويجازي ويحلِّل ويحرِّمُ بغير إذن من الله، فهو يتصرّف في أرض الله وماله وعبيده من دونه، فهو "طاغوت" متمرّدٌ كافرٌ بالله ..
غير أنّ الطواغيت البشرية لا تكون على درجةٍ واحدة في محبَّة العدل ونفي الظلم الذي تطلبه الرعيَّةُ منهم، وبعضهم أرفق بالناس وأعدل من بعضٍ. و"الطاغوت" الذي له شريعة مدونة يلتزمها وتعرف الرعية منها ما يحبُّ وما يكره، ما يأمر وما ينهى عنه، أرفق بالناس ممن شرعُه ما خطر بباله في يومه ولا يدري الذي يأتيه أيقتله أم يُكرمه.

الدّرجة الثّانية

الدرجة الثانية:
ويمثلها المجتمعات التي توحّدت سلطتها المركزية وتجاوزت مرحلة الفوضى وتعادل القوى، إلاّ أنّها وقعت في قبضة قادة لا قيم لهم ولا تشريع يحترمه الجميع، ويكون القائد في حرية تامة في أن يفعل ما يريد، يقتل من يشاء عندما يشاء ،ويأخذ مال من يشاء، ويعاقب البريء ويُكرم الفاجر الظالم، وقد أصبحت مقالته شرعاً شفوياً متغيراً، يجب على الناس أن يتّبعوا دائماً القول الجديد منه.
وقد يكون هذا المجتمع قوياً نوعاً ما وعلى مستوى "الدولة" ولكنّه من ناحية "العدل" وأمن الناس على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم يُعتبَر حتى عند كثير من أهل الجاهلية دولة همجية مُنحطّة.
لقد كان عرب الجزيرة قبل الإسلام يمثلون الدرجة الأولى لعدم وجود وحدة سياسية تعصمهم من التقاتل والتفرّق، وكان "المناذرة" في العراق و"الغساسنة" في الشام يُعتبرون أحسن حالاً من عرب الجزيرة لأجل ما كان لهم من وحدةٍ سياسية، ولكن كان ملوكها جائرين ظالمين في أحيان كثيرة كـ "عمرو بن هند" الذي سُمِّي بمضرّط الحجارة لأجل شدّته على الرعية، والذي أراد أن يُهين سادة القبائل بأن تخدم أمهاتهم أمه فكان ذلك سبباً لموته.
وكـ "النعمان بن المنذر" الذي قيل: إنه كان له يومان، يوم الرضى الّذى يُكرم فيه ويعطي من يأتيه، ويوم الغضب الذى يقتل فيه من يأتيه.


اخبر صديق

Kenana Soft For Web Devoloping